q
من أجل مواجهة الثقافة الغريبة التي تريد وتسعى أن تحملنا كأمة ومستقبل مسؤولية ما جرى، ومن أجل مواجهة المشاكل اليومية العالقة التي زادتنا ترددا وضياعا والتباسا، فإن علينا إعادة بناء ثقافتنا وتحرير وعينا من القوالب الفكرية والثقافة التي تريد مؤسسات الإعلام والثقافة الغربية إدخالنا فيها، وجعل أولوياتها...

ثمة ضرورة تبلورت في مجالنا العربي والإسلامي من جراء أحداث وتداعيات الحادي عشر من سبتمبر وحرب أفغانستان. ألا وهي ضرورة الانطلاق الجاد في بناء ثقافتنا من جديد على ضوء معطيات الراهن وثوابت الثقافة التي صاغت مسارات واقعنا المجيد.

ولكن هذه الانطلاقة لا تستهدف تبرير ما جرى، أو تأكيد حقيقة أن هناك ظروف موضوعية وسياسية قادت الأمور إلى ما جرى من أحداث وفظائع. وإنما هي انطلاقة تجتهد في تجسير الفجوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين حركة الواقع بتعقيداته وتشابكاته وحقائق ثقافتنا التي لا تقبل التأويل والتحوير.

وتنبع أهمية العمل على إعادة بناء ثقافتنا من النقاط التالية:

إننا كأمة ومجتمعات وأوطان، نتعرض لزخم متدفق من الإنتاج الثقافي والإعلامي الغريب الذي يتجه إلى تشويه صورتنا وتحميلنا كأمة وعقيدة مسؤولية ما جرى من أحداث.

فالكثير من عناصر الثقافة ومواد الإعلام التي أنتجت بعد الحادي عشر من سبتمبر، تدفع الأمور باتجاه تحميلنا مسؤولية تلك الأحداث. وإن الخيار المطروح إمامنا لقبولنا في حركة العصر والنادي الحضاري العالمي، هو التخلي عن الكثير من القيم التي فهمها بعضنا بشكل خاطئ ومغلوط أو تم قراءتها من قبل دوائر الغرب الثقافية والإعلامية بشكل ملتبس وغامض. مما أدخل واقعنا في دوامة العمل على تبرئة عقيدتنا مما جرى. وإن ما جرى هو وليد تطورات سياسية إقليمية ودولية، هيأت الأرضية السياسية للانطلاق في مشروعات عنيفة ضد الولايات المتحدة الأمريكية.

وعلى كل حال فإننا نود القول في هذا الصدد: أن ما جرى أدخلنا في واقع جديد وتحديات حضارية بعناوين ويافطات حديثة، وإن كل هذا يدفعنا إلى أن نستخرج من معادن ثقافتنا الغنية عناصر حيويتها ونطورها حسب حاجات واقعنا وشعوبنا، ثم نعيد صياغتها وننتجها بشتى ألوان الإنتاج مقروءا ومسموعا ومرئيا.

كل يوم نعيش تحديا حضاريا جديدا، ونواجه أحداثا ووقائع لا نعرف أحكامها ومنهج مواجهتها، حتى جعل الكثيرين منا يعيشون التردد والغبش في الرؤية تجاه كل ما جرى من أحداث وتطورات.

ومن هنا ومن أجل مواجهة الثقافة الغريبة التي تريد وتسعى أن تحملنا كأمة ومستقبل مسؤولية ما جرى، ومن أجل مواجهة المشاكل اليومية العالقة التي زادتنا ترددا وضياعا والتباسا، فإن علينا إعادة بناء ثقافتنا وتحرير وعينا من القوالب الفكرية والثقافة التي تريد مؤسسات الإعلام والثقافة الغربية إدخالنا فيها، وجعل أولوياتها هي أولوياتنا، وأجندتها هي أجندتنا. ومن المشاكل اليومية التي إذا فقدنا البوصلة تزيدنا ضياعا وغبشا وبعدا عن أولوياتنا الصحيحة.

فالأمة حين تفقد شخصيتها، فليس بينها وبين نهايتها إلا خطوة واحدة.. إذ الإنسان يعمل من أجل ذاته وبقواه الذاتية. وحين يفقد التحسس بذاته أو الثقة بها فبماذا ولماذا العمل.. كذلك الأمة تعمل -كأمة- من أجل شخصيتها، وبما لديها من طاقات مادية وروحية، فإذا ضاعت الشخصية فلماذا وبماذا العمل. إن شخصية الأمة هي روحها الجماعية التي يستوحي منها كل فرد من أبنائها العزيمة ولأمل. حين يعشق الفلاح أرضه التي يحرثها ويداعبها حتى تخضر وتنتج لا يحب التراب، كمادة جامدة، بل كرمز للأمة التي عاشوا ولا يزالون عليها.

وحين يتعامل العامل مع آلات مصنعه، وينسجم معها كأنه في جوقة موسيقية. فليس يتعامل مع الحديد. إنما مع البشر الذين سوف ينتفعون بها.

إن حبلا يشد هؤلاء وأمثالهم إلى بعضهم وروحا واحدة. تجمع قلوبهم وتضيئها بقنديل الأمل. ولكن إذا ضاعت شخصية الأمة ولم يعد يشعر أبناؤها بالروح الواحدة التي تجمعها فإن كل واحد سيتخذ طريقا مختلفا. وسيشعر الجميع بالضعف والعجز والهزيمة.

ومن الطبيعي القول: أنه من دون الثقافة الواحدة ذات القيم الإنسانية والحضارية السامية والثابتة التي يؤمن بها الجميع إيمانا راسخا يبعثهم على العطاء من أجلها والتضحية لها بكل شيء يسقط الجدار المعنوي لبناء الأمة.

ومن دون الهدف، ذو التجربة التاريخية، الذي يكون نقطة ارتكاز لنشاطات وحركة الأمة، ينهار الجدار المادي لبناء الأمة، وإن بوابة كل ذلك أو بالأحرى إن شرط القبض على كل ذلك (الثقافة الواحدة والهدف الواضح)، هو تحرير وعينا العربي المعاصر من كل الأوهام والأغلال التي تكبل تفكيرنا وتحرف أولوياتنا وتجعلنا نعيش الغبش في كل شيء.

إننا كأمة نتعرض اليوم لتهديد حقيقي بضياع شخصيتنا ولا سبيل أمامنا إلى تحرير وعينا من كل الرواسب التي تحول دون انطلاقتنا الحضارية والإنسانية.

إن ما جرى من أحداث ومآسي ليس نهاية التاريخ، وإنما هو لحظة تاريخية تحملنا مسؤولية العمل على بناء ثقافتنا حتى يتسنى لنا جميعا المشاركة الفعالة في حضارة العصر. وحتى نتمكن من خلال وعينا وتقدمنا الحضاري، أن نجابه كل التصورات التي تحاول أن تلصق صفة التخلف والتأخر بالإسلام.

إن مسؤوليتنا تتجسد في الهروب إلى الأمام، عبر تحرير وعينا وبناء واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي على أسس أكثر إنسانية وحضارية وينبغي أن ندرك جميعا أن الزيادة في الدين حرام، لأنها نوع من الغلو الممنوع. وإن هذا الأخير كان هو المسؤول المباشر عن تمرد طائفة كبيرة من الناس على الدين. ولا يخفى علينا جميعا أنه في العالم المسيحي كان الغلو في الدين هو السبب المباشر لانتهاء سيطرة الكنيسة وتحول الناس إلى اللائكية والإلحاد.

وحين تراجعت الكنيسة تحت ضغط الظروف عن إضافاتها اللامعقولة إلى الدين عاد العالم الغربي إلى الكنيسة. من هنا غضب الباري عز وجل على طائفة من الناس لأنهم حرموا ما أحل الله لهم وقال (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون* قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). (الأعراف الآية 32-33)..

من هنا فإننا نقول: إن فتح أبواب التطور أمام الأمة، يتطلب تحرير وعينا وبناء ثقافتنا على ضوء معطيات الإنسان والحضارة. وهذا يقودنا إلى التأكيد على النقاط التالية:

1- أصالة القيم: غني عن القول، أنه كلما ابتعدنا عن القيم والمبادئ والمثل الإنسانية والحضارية، اضطرب واقعنا وبدأنا نعيش في دائرة الفوضى والعدوان واللاأبالية. لهذا فإننا لا يمكن أن نبني ثقافتنا ونحرر وعينا من الأوهام والأغلال الداخلية والخارجية. بدون الاستناد إلى أصالة قيمنا ومبادئنا. وما أحوجنا اليوم كأفراد وأمة إلى تلك القيم التي تعلي من شأن الإنسان وكرامته وتحفزنا على التعاون والتسامح والتآخي على قاعدة المشترك الديني والإنساني فالناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق. وإن جهدنا اليومي المطلوب، ينبغي أن يتجه صوب تعميق هذه القيم ومتطلباتها في فضائنا الاجتماعي. فكلما نقترب من الالتزام بمقتضيات هذه القيم، تتوطد أسس الأمن والاستقرار في محيطنا ومجالنا الاجتماعي. ولا تحرير لوعينا إلا برافعة هذه القيم، التي تطرد من عقولنا وواقعنا كل حالات الأثرة والأنانية والتصنيف والتهميش والانخراط الأبله في مشروعات التفتيت والحروب المجانية.

والفقهاء والعلماء والمثقفين في مجالنا العربي والإسلامي، يتحملون مسؤولية كبرى في هذا الإطار، إذ أن عطاءهم الفكري وجهدهم الإصلاحي من الأهمية بمكان أن يتوجه صوب تعميق حقائق حقوق الإنسان وخيار الحرية والديمقراطية في الأمة.

2- ضرورة الاستناد على حقائق القوة والتقدم، وترك ونبذ الشعارات التي نتعامل معها وكأنها البديل الجوهري عن العمل والبناء. فالتقدم ليس وليد الشعار المجرد، بل هو نتيجة العمل المستمر الذي يتجه نحو صناعة الحقائق الثقافية والاقتصادية والسياسية، التي تساهم في حل العديد من المشكلات، وتستوعب جملة من الطاقات والكفاءات، وتؤكد لنا جميعا أن لا خيار أمامنا إلا خيار البناء والعمل من أجل ترجمة طموحاتنا وتطلعاتنا إلى حقائق ووقائع على الأرض.

3- التفاعل مع التجارب الإنسانية الحديثة، ورفض حالات الانكفاء والانعزال والتهميش. فالعلم الحديث، خلاصة تجارب، وعينا أن ننفتح عليها، ولكن قبل ذلك علينا أن نميز بين قشور التجارب ولبابها، بين المغزى الحقيقي للتجربة، وبين الإطار الذي وضع فيه هذا المغزى.

والأمة التي تنعزل عن تجارب غيرها، تتأخر، ولا تمتلك القدرة على استيعاب تطورات ومكاسب الآخرين.

وجماع القول: إن التطورات السياسية التي تجري اليوم في المنطقة، تتطلب منا العمل على تحرير وعينا من أوهام الاستنساخ الحرفي وأسباب العطالة والاستقالة عن الفعل التاريخي، ونعمل جميعا على تأسيس وعي معاصر، يأخذ في اعتباره أن القبض على المستقبل، لا يأتي إلا ببناء القوة الحضارية، وصنع حقائق التقدم والتطور في فضائنا العربي والإسلامي. والبداية السليمة لأي مشروع اقتصادي أو تجاري أو حضاري، هو التعرف التام على الراهن واللحظة التاريخية وجوانبها المختلفة، لأنه باختلاف الواقع، يختلف الأسلوب، وتتغير الوسيلة، فواقع الثمانينات الاقتصادي مثلا، يتطلب مشاريع وأفكار اقتصادية، تختلف بشكل أو آخر عن مشاريع ومتطلبات عقد التسعينات، كما أن العقد الأول من الألفية الجديدة تتطلب مشروعات وأفكار اقتصادية متميزة. والمشروع الاقتصادي أو التجاري أو الحضاري، الذي يجهل الواقع ومتطلباته، لن يتمكن من تحديد سلم الأولويات في مشروعه. وكثيرة هي الأعمال والأنشطة في المشهد العربي، التي ضيعت سلم الأولويات لا لسبب ذاتي، وإنما لجهلها التام أو النسبي للواقع الذي تعيشه ومتطلباته المختلفة.

ولكن ثمة خلل عميق قد يصيب المجتمع في هذه المسألة، إذ كثير من المجتمعات، تختلط لديها الأماني والتطلعات بالإمكانات والقدرات المتوفرة، لأن العمل والسعي الحثيث، هو القنطرة الوحيدة لنقل التطلع من عالم التجريد إلى عالم التشخيص، من المثال إلى الممكن. ويجانب الصواب من يرى أن أحقية تطلعه، وأهمية أمنيته وعدالة قضيته، كل هذه الأمور كافية لاجتياز طريق تحقيقها وإنجازها في الواقع الخارجي، لأن هذه القضية قضية موضوعية، خاضعة إلى النواميس والسنن، ومقدار القدرة الفعلية المتوفرة في سبيل الإنجاز.

من هنا تنتج ضرورة الموازنة بين التطلع والإمكانيات، بين الواجب والواقع، بين المثال والممكن، بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن، لأن هذه الموازنة، هي التي توظف الإمكانات القليلة في سبيل تحقيق التطلع الأهم وذات الجدوى.

ولعلنا لا نبالغ حينما نقول، أن دراسة تجربة العرب المعاصرة سواء على الصعيد السياسي، أو على صعيد مشاريع التنمية والتطوير الاقتصادي، تكشف لنا أن أحد الأخطاء التاريخية التي منيت بها تجربة العرب المعاصرة على هذه الصعد، هو حالة الخلل الموجودة بين الممكن والواجب، بين التطلع والإمكانيات، إذ اختلطت هذه الأمور في التجربة، فجعلت البعض يقوم بأعمال وأنشطة ومشاريع لا تنسجم وظروفه الواقعية.

ونحن هنا بطبيعة الحال، لا ندعو إلى أن يتخلى العرب عن تطلعاتهم وأمانيهم لأنها ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني. ولكننا ندعو إلى أن المجتمعات العربية على المستوى العملي والفعلي، ينبغي أن يعملوا في كل الاتجاهات على قاعدة الإمكانات والقدرات، لأن الإنسان مهما أوتي من قوة، فإنه لن يستطيع أن يحقق تطلعاته دفعة واحدة، وإنما عليه أن يعمل ويسعى، لتحقيق خطوات وإنجازات ومكاسب، تقربه من تطلعه البعيد. وعلى هدى هذه الحقيقة التي ترقى إلى مستوى القانون، تتأكد مسألة الموازنة بين المثال والممكن، وإننا نرى أن أحد الشروط الأساسية لنجاح المجتمع العربي في تنميته وتطوره، هو الموازنة الواعية بين الممكن والواجب.

لهذا فإن القرآن الحكيم نزل منجما [بالتدريج] والدين الإسلامي في كل توجيهاته الفكرية، وتعليماته الأخلاقية، وتشريعاته القانونية، يأخذ بعين الاعتبار واقع الحياة والإنسان. وهذا لا يعني التخلي عن المثال أو التطلع، وإنما يعني العمل على رفع سيئات الواقع وإحلال حسنات المثال والقيم بشكل تدريجي لا يفاجىء الناس، ولا يعطل مسيرة المجتمع.

فلا يكفي حماس المجتمع حتى يتحقق تطلعه وطموحه، وإنما لابد من توفير جملة من العوامل الذاتية والموضوعية، لإنجاز التطلع والطموح. وإن الخطر الحقيقي الذي يواجه الواقع العربي اليوم، ليس في الهزيمة المادية الخارجية، بل في الهزيمة النفسية. التي تسقط كل خطوط الدفاع الداخلية، وتمنع من وجود القدرة الطبيعية لإدارة الذات فضلا عن تطويرها وتذليل العقبات التي تمنع ذلك.

اضف تعليق