q
ولأن الأحزاب عانت اختلال العلاقة بين الأعلى والأدنى، والأغلبية والأقلية، وغابت عنها حرية التعبير بزعم المركزية ووحدة القرار، فقد احتجب النقد والنقد الذاتي، وعانت من مركزية بيروقراطية صارمة واتكاليّة وتعويليّة فكرية مهيمنة، الواضحة في أحزاب السلطة والمعارضة، حيث تكررت الانقسامات والانشقاقات وحركات الاحتجاج لقمع الرأي الآخر...

توقف «جون بول سارتر» عند ظاهرة «افتراق السياسة عن الفكر»، حين عبّر عن ذلك بما معناه، هل يجب أن أقول الحقيقة فأخون البروليتاريا، أم يجب أن أخون الحقيقة بحجة الدفاع عن البروليتاريا؟

وكانت جامعة أكسفورد نظّمت ندوة في عام 2003 في إطار «مشروع دراسات الديمقراطية» حول «الديمقراطية في الأحزاب الثورية»، وفيها قدّمتُ بحثاً بعنوان «حين تزدري السياسةُ الفكرَ»، خلاصاته كيف يتم تبرير التجاوز على المبادئ والأفكار بزعم الضرورات السياسية والحزبوية، وإذا كان هناك من حاجة ماسّة ومستمرة لتكييف الفكر كي ينسجم مع الواقع، وهو ما نُطلق عليه البراكسيس، فإن ذلك لا يعني تعارضهما، أو تعاكسهما، بل توافقهما وتقاربهما.

لقد فقدت الأغلبية الساحقة من الأحزاب السياسية في عالمنا العربي ألقها الذي كانت تتمتّع به في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وتدريجياً أخذ لونها يبهت وصوتها يتحشرج، ووهجها يخفت، وهو ما أظهرته بشكل صارخ حركة الاحتجاج الواسعة التي أُطلق عليها «الربيع العربي» قبل عقد من الزمان، والأمر يعود لأسباب موضوعية، وأخرى ذاتية.

الأولى تتعلّق بانتهاء الصراع الأيديولوجي بشكله القديم، وتبدل ظروف الحرب الباردة التي توجّت بهدم جدار برلين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989.

الثانية تتعلق بفقدان الحماس الشعبي، وعزوف الشباب عن الانخراط في صفوفها، إلى درجة أصبح بعضها منتدى للمسنين والمتقاعدين الذين يعيشون في الماضي، وتحوّلها إلى أحزاب محافظة وتقليدية.

ولعب العاملان الموضوعي والذاتي دورهما في الحال التي وصلت إليها الأحزاب القديمة، القومية والشيوعية، إضافة إلى الأحزاب الدينية، بل إن بعض الانتقادات التي كان يوجهها بعضها إلى الآخر وقع هو فيها، من المحسوبية والمنسوبية والفساد والتسلّط، فهي لا تتورّع من التزوير، أو تسكت عنه، أو تمالئ أحياناً إذا كان يأتي إليها بمنفعة أو لبعض المحسوبين عليها. فالعلماني أصبح طائفياً، والطائفي أخذ يتحدّث بالدولة المدنية والقومي، والأممي لم يجد ضيراً من قبول التعامل مع قوى خارجية، بل إن العديد منهم انكفأ ليصبح محليّاً، بل متذرّراً في هوّيته الفرعية، فهذا يتحدث عن المظلومية التاريخية، وآخر يتناول حقوق «المكوّن»، وثالث يضع انتماءه الإثني فوق الانتماء الوطني، كما دخلت إليها العشائرية والوراثية.

ولم تستطع هذه الأحزاب لأسباب القمع المعتق الذي كانت تتعرّض له وعمليات الإلغاء والاستئصال والتهميش وشحّ الحريات بالدرجة الأساسية، أن تتنفّس هواء ديمقراطيّاً، لا سيّما مع استمرار نهج الاستبداد لعقود من الزمان، ولأسباب فكرية وعملية، لم تتمكّن من تقديم بديل مقبول، بل استخدمت الأساليب نفسها في الكثير من الأحيان، في معادلة ملتبسة، ظلّت تطرح أسئلة عدة: هل المعارضات وجه آخر للسلطات؟ فإذا كانت رحيمة وسمحة، فستراها عقلانية وسلمية، والعكس صحيح. وتلك واحدة من مفارقات السياسة.

ولأن الأحزاب عانت اختلال العلاقة بين الأعلى والأدنى، والأغلبية والأقلية، وغابت عنها حرية التعبير بزعم المركزية ووحدة القرار، فقد احتجب النقد والنقد الذاتي، وعانت من مركزية بيروقراطية صارمة واتكاليّة وتعويليّة فكرية مهيمنة، الواضحة في أحزاب السلطة والمعارضة، حيث تكررت الانقسامات والانشقاقات وحركات الاحتجاج لقمع الرأي الآخر.

والأكثر من ذلك، فإن الحزبوية تقدّمت على الهويّة الوطنية في الكثير من الأحيان، بزعمها أن الحزب متقدم على الوطن، وفي الكثير من الأحيان، تمت التضحية بالعديد من أعضاء الحزب ذاته، ومن أخلص الوطنيين بسبب النهج الأُحادي الإطلاقي بتبرير ادعائها امتلاك الحقيقة والأفضليات.

وغالباً ما دخلت حزبويات في صراع تناحري كان الوطن فيها هو الضحية، خصوصاً في ظل شحّ حرية التعبير ونظام الطاعة والهيمنة والأبوية.

لقد تربّت النخب الحزبوية في أجواء السرية والحرمان والفاقة، وحين اقتربت من السلطة، أية سلطة، فرّغت الكثير من عقدها للتعويض عن ذلك، مستخدمة أساليب من أشدها قسوة وفظاظة إلى أكثرها مكراً وخبثاً، الأمر الذي يحتاج إلى إجراء مراجعة نقدية للسياسة الحزبية والحزبوية السياسية، والهدف أنسنة الحياة السياسية.

ومن العبث أن نحاول مدّ الوقائع لتكون مطابقة لسرير بروكرست، حسب الميثولوجيا اليونانية، حيث يسعى الحزبوي لجرّ صاحبه حتى يهلك إذا كان السرير طويلاً، أما إذا كان صاحبه أطول فيعمل على اقتطاع أرجله لتأتي تصوّراته ونزعاته الإرادوية متطابقة مع الواقع. وفي كلتا الحالين، فالخسارة فادحة، ولا بدّ من الإقرار بذلك والتعامل مع الواقع كما هو، لتجنيب البلاد صراعات لا طائل منها، خصوصاً التنكر للحقيقة. وتلك إحدى المعضلات التي تواجه المثقف الحزبي والسياسة الحزبوية.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق