q
إن النظام العام الصادر من القيم والمبادئ التي يؤمن بها المجتمع سينتج جيلاً يرنو الى الوعي ويستم باليقظة ازاء أي فكرة ترد عليه، فهو يحيلها الى منظومة القيم هذه ليرى ما إذا كانت متوافقة ومنسجمة ام لا؟ بمعنى انه سيمتلك قوة خفية ذات قدرات عالية على الردع...

في فترة المعارضة لنظام صدام خارج العراق، كانت صحافة هذه المعارضة، وايضاً المؤلفات والمنشورات كثيراً ما تتجنب وسم الوضع السياسي الحاكم في العراق بأنه "نظام"، فبدلاً من "نظام صدام"، كنّا نقرأ "الطغمة الحاكمة"، أو "الزمرة"، أو "طاغية العراق"، كون الدلالة اللفظية للنظام تعبر عن مفهوم ايجابي محبب للنفوس، وهو ما كان يتناقض مع الصراع المحتدم بين المعارضة ونظام صدام آنذاك، ولا ينسجم المدلول بالكامل مع السياسة المتبعة آنذاك بتوفير النظام لتحقيق الامن والاستقرار لصدام أولاً ولنظام حكمه قبل عامة الناس، بيد أن المفارقة؛ اذا ما سُئل مواطن عراقي آنذاك–افتراضاً- عن رؤيته لمن يحكمه، هل هو "نظام حكم"، أم ديكتاتورية ودولة بوليسية، كما عبّرت عنه المعارضة آنذاك؟ فمن البديهي سيجيب: انه نظام حكم جيد غاضاً النظر عن سياسته ومنهجه، وما يجري داخل السجون، وما يتخذه رجال هذا النظام في الغرف المغلقة من قرارات حرب، او اجراءات قمع او كل ما يؤول الى الدمار والويلات.

معظم الحكومات الديكتاتورية التي تم الاطاحة بها في السنوات الماضية في بلادنا العربية والاسلامية –إن لم نقل جيمعها- سحبت معها النظام العام والاستقرار الى الحضيض، حتى بات الناس يتطلعون الى أيام ذلك النظام الديكتاتوري، وانضباطه في كل شيء، عندما يروا أنفسهم يغرقون في الدماء والدمار التي اعقبت عملية الاطاحة بأولئك الديكتاتوريين.

لماذا فقدنا مصدر النظام؟

وجدت الشعوب الاسلامية النظام كمفهوم وتطبيق عملي من الانظمة السياسية الحاكمة التي وجدت فيه ضرورة حيوية لشرعيتها السياسية، وايضاً لكسب ودّ واحترام الناس، لذا وجدنا جميع المرافق المتعلقة بالدولة يسودها النظام من؛ مرور، وتعليم، وصحة، وسائر الخدمات، و أي شكل من اشكال الفوضى يشكل بالنسبة اليها مصدر تشكيك وقدح في مصداقيتها، بغض النظر عن طريقة تحكيم هذا النظام الذي كان يُفرض بالقوة و اتباع اسلوب الترهيب والترغيب، وهو ما لم تمانع منه الجماهير، اذا لم نقل اندماجها وتفاعلها مع هذا الاسلوب لما ينعكس عليها ايجابياً في توفير حياة آمنة ومستقرة، لذا كانت –في معظم الاحيان- تتجنب إغضاب الديكتاتور بكلمة معارضة او انتقاد معين حرصاً منها على سير الامور على ما يرام.

ونظرة اخرى الى ما قبل تشكل هذه الديكتاتوريات في بلادنا، نجد أن النظام في الحياة كان سائداً وبشكل رائع، كون الناس لم يكن يرعبهم وجود الشرطي، او تخوفهم الغرامة المالية، او السجون والمعتقلات، بقدر ما كان وازع الضمير والايمان والاخلاق هو الذي يجعل حركة الانسان وسلوكه وتصرفاته ضمن إطار الاحترام والالتزام بحقوق الآخرين، بل إن هذا النظام يُعد من أسس الدولة الاسلامية الواحدة "المفترضة" بناءً على حقيقتين: "الاولى؛ انه واجب شرعي، فقد قال أمير المؤمنين، عليه السلام، "ونظم أمركم"، والثاني: كونه سنّة كونية، فقد خلق الله سبحانه الكون كله منظماً، وقد قال –تعالى-: {من كل شيء موزون}، فقطرات الامطار منظمة و موزونة، وكذلك الاشجار، والحيوانات، والرمال، والنجوم، وسائر الكائنات الاخرى"، (السبيل الى إنهاض المسلمين)، علماً أن الامام الراحل يستنبط من هذه الحقيقة ضرورة وجود "التنظيم"، في خطوة متقدمة وحضارية من النظام كحالة عامة، الى التنظيم كعمل وحركة منتجة، و راح سماحته –طاب ثراه- يؤلف وينظر لهذا المفهوم المتجدد في اطار مشروعه الإصلاحي والنهضوي في المجالات كافة، سواءً في مؤلفاته، او في احاديثه مع الشريحة المثقفة.

ولعل أبرز مثال حيّ امامنا على الجذور القيمية للنظام العام المحبب لدى نفوس الناس، ما جرى في العراق بعد الاطاحة بنظام صدام الذي نمر هذه الايام بذكراه الثامنة عشر (9 نيسان 2003)، عندما وجد العراقيون، وبشكل مفاجئ ولأول مرة انفسهم من دون أجهزة القمع والارهاب المتعددة مثل؛ أجهزة الحزب، والشرطة والمخابرات، رغم أن هذه الاجهزة تركت جروحاً غائرة في شريحة كبيرة من الناس، فقد أزهقت أرواح الآلاف بسبب تقارير و وشايات، او تحت التعذيب، وكانت الدوائر المخابراتية والعواصم المعنية تتوقع حدوث تصفيات دموية وعمليات قتل بالشوارع كما حصل في بلاد عديدة، لاسيما وان بعض تلك الجروح لها خلفية طائفية واضحة ثبتتها القوات المقتحمة لمدن كربلاء المقدسة والنجف الاشرف بعد انتهاء الانتفاضة الجماهيرية بذلك القمع المريع عام 1991، فلم تحدث تصفيات بحجم معاناة طالت ثلاثين عاماً، وإنما حصل تصفيات معدودة لبعض البارزين من قيادات حزب البعث، أما النظام العام فقد وفره الناس من العشائر كقوة بديلة عن قوة النظام السياسي، علماً أن معظم بنود النظام العشائري مقتبس من القيم الدينية والاخلاقية، فأمن الناس على ممتلكاتهم وأرواحهم لفترة طويلة من الزمن.

تغييب القيم والحنين الى "نظام الديكتاتورية"

كل الدلائل أشارت الى أن فوضى القيم وتغييب النظام كان أبرز ما حققه الاميركان في عملية الاطاحة بنظام صدام، منها؛ السماح باقتحام المصارف والبنوك، وايضاً اقتحام الثكنات العسكرية ومخازن السلاح لتكون نهباً لبعض الاشخاص امام مرأى ومسمع القوات الاميركية الغازية والمدعية أنها تحمل معها الديمقراطية ومبادئ حقوق الانسان!

فبعد أن لم يؤتِ السلاح نتائجه المرجوة، بدأت الخطة الثانية على الصعيد الفكري والثقافي لاستهداف القيم والمبادئ المنتجة للنظام والاستقرار في المجتمع مثل؛ الصدق، والأمانة، والتعاون، والتكافل، واحترام حقوق الآخرين، وكانت الارضية الواسعة والصلبة؛ نظام المحاصصة السياسية والطائفية، وانتشار الفساد في معظم دوائر الدولة –إن لم نقل جميعها- وبشكل سرطاني يتعذر التخلص منه، الامر الذي ألحق اضراراً بالغة بجدار القيم الذي يستند عليه المجتمع، وعندما كانت المؤسسة الدينية في طريقها للتحرك من خلال المنبر الحسيني، والهيئات، والجمعيات، وبعض وسائل الاعلام، تحركت بموازاتها قوة اعلامية قاهرة متسلحة بشبكة عنكبوتية مدعومة من مؤسسات اتصال عالمية اضافت الى القنوات الفضائية والانترنت "وسائل التواصل الاجتماعي"، لتصيغ لشريحة الشباب منظومة قيمية جديدة لا تكلفهم عناء الالتزام بالاحكام والآداب بما يحقق لهم نزعة الظهور وحب الذات وكل ما يعدونه أحلاماً وآمالاً بالسعادة والرخاء في الحياة.

وكانت البداية من الفصل بين العمل و نتائجه، بدعوى عدم صحة اصدار الاحكام على الاشياء بصورة غيبية، فبات –مثلاً- أمن الفتاة والمرأة في الشارع ليس مرهوناً بالتزامها بالحجاب، وأن التبرّج والسفور لا علاقة له بالمرة بانتشار حالات الاغتصاب وما بات يُعرف بـ "التحرش الجنسي"، او ان عدم اتباع الابناء لنصائح الأبوين ليس بالضرورة يؤدي الى فوضى السلوك، وحدوث حالات عدوانية، ويلقون باللائمة في كل هذا على الاسقاطات السياسية وما تسببه المحاصصة والفساد من بطالة وفقر، وغيرها من الافرازات التي هي مصداق "كلمة حقٍ يراد بها باطل".

ولكن! ثمة سؤال يقفز امامنا:

ما الذي يدفع جهات في الداخل والخارج لخوض هذه المواجهة الغريبة مع قيم المجتمع وثقافته المتجذرة؟

إن النظام العام الصادر من القيم والمبادئ التي يؤمن بها المجتمع سينتج جيلاً يرنو الى الوعي ويستم باليقظة ازاء أي فكرة ترد عليه، فهو يحيلها الى منظومة القيم هذه ليرى ما اذا كانت متوافقة ومنسجمة ام لا؟ بمعنى انه سيمتلك قوة خفية ذات قدرات عالية على الردع أقوى بكثير من ترهيب وترغيب الديكتاتور، لان القضية لن تكون بالتهديد والإكراه، وإنما بوازع الضمير والوجدان، والايمان الكامل من خلال العقل والتفكّر بالحاجة الى هذه القيمة الاخلاقية وذلك الحكم او التشريع لإحلال النظام العام وتحقيق الامن والاستقرار للجميع.

وفي ظل هكذا مستوى ثقافي يكون بامكان جماهير الشعب اتخاذ اكبر القرارات واكثرها تأثيراً على الاقتصاد والسياسة والامن في الداخل والخارج بعيداً عن الارادات الدولية، ولاسيما شريحة الشباب التي ستخيب آمال الجهات المتربصة بالعراق بانها لن تنطلي عليها القيم الزائفة والشعارات البراقة مثل؛ "الحرية"، "وحقوق الانسان". التي ثبت أن نسختها الحقيقية والناصعة موجودة في بلادنا قبل ان تتشوه في البلاد البعيدة.

اضف تعليق