q
لقد ظل انتماء العراقي للعراق قضية ثانوية أو مؤجلة، طالما انه يجد ذاته في مشروع أكبر من الوطن، مرة مشروع الاشتراكية الاممية، ومرة مشروع الوحدة القومية العربية، ومرة ثالثة المشروع الاسلامي الكبير، وفي كل مرة تتجدد الانقسامات المحلية تبعا لمخرجات الصراع بين متطلبات ومقتضيات المشروع....

يقارن العديد من الباحثين والمختصين بين شخصية العراقي وشخصيات الاخرين من بلدان الجوار، الذين يشتركون معه في الانتماء الديني أو القومي، ويلاحظون فارقا في تمظهرات الانتماء لدى هذه الشخصيات، اذ لا يجد الاسلامي الايراني او التركي او المصري تناقضا بين ايديولوجيته الاسلامية مثلا وانتماءه القومي، فاعتزازه بوطنيته وقوميته تجعله يكيف هذا الانتماء فكريا، ولا يقدم مصلحة فوق مصلحة بلاده، بينما يُلاحظ على العراقي انغماسه في (المشاريع الكبرى) واستعداده للتضحية من اجلها، وان كان في موقفه هذا (يخدش) وطنيته أو يزري بها ولا يعيرها مكانة أو قيمة.

اندماج العراقي في الانتماء العلوي (اعلى مرتبة) وترجيحه على انتمائه الوطني او المحلي، باتت تطرح قضايا اشكالية، بعضها حديث نسبيا وبعضها الاخر معاصر، ابرز هذه الاشكاليات، طبيعة ارتباط العراقي بدولته ووطنه نفسيا وسياسيا وعمليا؟ ويتفرع من هذه الاشكالية، السؤال الاساس، ما هو تعريف الوطنية بالنسبة الى العراقي؟ هل ثمة تماهي أم انفصال وتمايز بين الانتماء العلوي (الديني او المذهبي او القومي او الايديولوجي) وبين الانتماء الوطني؟ أو بمضمون اكثر صراحة، اي الانتماءات التي تحرك سلوكنا السياسي؟

تدير بعض الاوساط النخبوية حوارا ومجادلات متعلقة بالاشكاليات المشار اليها، دون ان تصل الى نتائج حاسمة، والحسم متعذر هنا بطبيعة الحال، كون العراقيين عموما يعيشون ازمة هوية ويختلفون في تعريفهم لذاتهم الجمعية، وبسبب هذه الازمة يضطرب السلوك السياسي وتتعارض المواقف والسياسات، ويشتد الجدل على الاولويات، فالعراق المتنوع مذهبيا وقوميا واثنيا، والعراقي المتحزب بطبيعته حتى لو لم ينتم لحزب سياسي محدد، يعتبر بيئة مثالية لنفوذ المشاريع الفكرية-السياسية الكبرى ذات الطابع الاممي (اعلى من الوطن ومصالحه)، وتتعمق المشكلة حينما يحدث صدام وتعارض بين مصلحتين، مصلحة المشروع الكبير والمصلحة الوطنية.

وينقسم الناس تبعا لذلك، ويتصاعد الخلاف لمستوى تهديد السلم الاهلي، هذه القضية تعيد التذكير بمسؤولية الصراع الايديولوجي الذي منع بناء الدولة في العراق، وأسهم بشكل كبير في تعطيل التعافي البطيء من المشكلات المزمنة في الاجتماع السياسي العراقي، اذ تتحمل القوى اليسارية (الشيوعية) والقومية (بكل احزابها) والاسلامية العراقية النصيب الاكبر من المسؤولية، عن حالة الاستقطاب الايديولوجي وتحويل قضايا المجتمع والدولة الى لعبة افكار ومواقف ثنائية القيمة والجوهر، استنزفت سنين طوال من عمر اجيال المجتمع، واستهلكت روح الامة في (مشاريع وهمية) سقط بسبب القمع والصراع والعنف الذي فجرته، مئات الالاف من العراقيين وتهدم العمران وضاعت أزمنة من التطور لا تعوض، ولازالت الدائرة تدور، دون ان يخبرنا أحد ماذا حققت ايديولوجيا الصراع هذه، قيميا وماديا؟، واي نتائج حصدتها لصالح مشروع (التقدم او الوحدة او النهضة بكل مسمياتها)؟

لقد ظل انتماء العراقي للعراق قضية ثانوية أو مؤجلة، طالما انه يجد ذاته في مشروع أكبر من الوطن، مرة مشروع الاشتراكية الاممية، ومرة مشروع الوحدة القومية العربية، ومرة ثالثة المشروع الاسلامي الكبير، وفي كل مرة تتجدد الانقسامات المحلية تبعا لمخرجات الصراع بين متطلبات ومقتضيات المشروع الاممي واستحقاقات المشروع الوطني، ثم لا ننته من تجربة حتى ننخرط في أخرى، بمسميات جديدة.

الى ماذا يشير هذا الانخراط المتسارع في كل هذه المشاريع؟ ولماذا لا نجد حضورا للمشروع الوطني في ثنايا هذه المشاريع الكبرى؟

هذا السؤال يحيل الى المنظومة الثقافية العراقية، فلماذا يشعر العراقي انه معني بحماس بالاهداف الكبرى وينسى معها مصلحة بلاده وقومه أًو ئؤخر هذه المصلحة لمراتب متأخرة؟، ولماذا لا يتطابق في هذا الموقف مع التركي او الايراني او الماليزي مثلا، فهولاء وغيرهم تتماهى عندهم مصلحة بلدانهم ووحدتها واستقرارها وازدهارها مع شعاراتهم الاممية ومشاريعهم الايديولوجية، فالاسلامي التركي تتقدم عنده مصلحة تركيا وامنها القومي، وكذا الايراني ومثله المصري، فيما تتقدم مصلحة المشروع القومي او الاممي عند العراقي؟

يتعين ان يعاد التفكير بهذه القضية وتطرح للنقاش الجدي المفتوح، فلا يكفي الادعاء بعلوية مصلحة الدين على مصلحة الجماعات المحلية او الاوطان الصغرى قياسا بالوطن الكبير، وهل فعلا هناك وطن اكبر من الوطن الفعلي؟ وقضية مركزية اهم من مركزية الوطن في السلوك والفعل والعمل والانتماء؟

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق