q
أي تحول حين يراد له ان ينمو ويكبر بظروف سليمة لابد من تهيئة ظروف خاصة اجتماعية واقتصادية كالدخل الفردي، والتعليم المنتشر، الى جانب توسيع مدنية المجتمع، والالتزام الكامل بالقيم والمبادئ المنتمية للمنظومة الديمقراطية، وخلاف ذلك سيكون التحول عسير ويسير ببطيء لا يمكن ان نشعر به في الوقت القريب...

كان هنري أدامز يقول: "السياسة هي التنظيم المنهجي للحقد"، ومن المفارقات في ألازمات أن سياسة الحقد محلية، وسياسة الإنقاذ خارجية، وكأنه يوصف المجتمعات العربية بصورة دقيقة ولم يخطأ في الوصف، قهر وظلم واذلال وعدم التعامل معك على أنك انسان بالدرجة الأساس ومواطن مهما كانت صفتك، هكذا هو الحال بالنسبة للإنسان الذي قُسم له العيش على واحدة من الدول العربية في المشرق والمغرب.

ازدياد البؤس والشؤم السائد في تلك البلدان جعل من الشعوب تحلم بمنقذ مما هي فيه، وبالفعل صارت التدخلات الأجنبية بمثابة الضوء في نهاية النفق المظلم، ورشفة الماء التي تهدأ من رعب الكابوس الذي يطارد الافراد بمختلف البلدان وعلى جميع المستويات، فالحرية الفكرية غائبة، والافعال مقيدة بصورة غريبة، والحريات الفردية بصورة عامة مصادرة.

خشية الاسرة العراقية على سبيل المثال ابان الحكم الصدامي وصلت الى شيء لا يمكن ان يُصدق، فعند التطرق لبعض الممارسات السياسية الخاطئة والجشعة بحق المواطنين، يبادر أحدهم الى القول، "يمعودين اسكتوا، ترا حتى الحايط عنده اذان يسمع"، خُيل للجالسين ان جدران الغرفة التي يجلسون فيها ربما تكون شاهد عليهم عند رئيس جائر لا يعرف من الرحمة شيء.

بقيت القوى الداخلية ترزخ تحت هذه الأوضاع طيلة عقود من الزمن، مورس بحقها أبشع أنواع الظلم واقتيدت الى مقاصل الموت ولم تكن قادرة على تغيير السيء بالحسن، ولا استبدال المعاملة الغليظة الى التعامل برفق وطيبة من قبل أصحاب القرار، وهكذا بقت الأيام تمضي دون امل يلوح في الأفق القريب، فالأمل بقيّ معلقا على الجهات الخارجية لفك حبل التقييد عن ملايين من المواطنين.

بدأت تحركات المعارضة العربية تتحين الفرص لأحداث التغييرات المنشودة، حيث التقت هذه الجهود بالرغبة الغربية التي تريد التدخل أكثر فأكثر بالشأن العربي، فوجدت الطريق السليم والبوابة العريضة لتمرير هذه الرغبات وتحقيق الغايات التي اتضحت فيما بعد بانها اشد خطورة على المجتمعات من الأوضاع القديمة والنتائج لا تحتاج مزيدا من البحث او العناء فهي واضحة كالشمس في عز النهار.

التحول الديمقراطي في العالم العربي باتت قضية تحتل مكانة مهمة من بين القضايا المطروحة في المجتمع الدولي، ففي كل مرحلة من مراحل التطور السياسي عبر التاريخ تبرز منطقة بعينها لتحتل أولوية خاصة، مثال ذلك الذي حصل نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث امتد النظام الديمقراطي ليشمل دول أوروبا الغربية كلها، كما أفسح المجال لتحول دول المحور المهزومة إلى الديمقراطية، وكانت حالتا ألمانيا واليابان هما الأبرز، وإن شكلتا الاستثناء بحكم خضوعهما للتدخل الخارجي المباشر.

ومثل عام 2011 منعطفًا مهمًا في التاريخ السياسي العربي، فقد وصلت شرارة التغيير التي الهبت الحماس لدى الجماهير، فمنذ اعوام وحتى اليوم شهدت العديد من الدول العربية رفضا شعبيا غير مسبوق للمطالبة بالإصلاحات السياسية والشفافية وحكم القانون، الى جانب التأكيد على تغيير الأنظمة.

والعنصر الأكثر أهمية والذي نحن بصدده الآن هو ان التحول الديمقراطي العربي جاء بتأثير عوامل دولية شديدة التحكم بالواقع العربي ولا يمكن تجاهلها، هذه العوامل تمثلت في مساندة الدول الغربية والولايات المتحدة بقوة لمثل هذا التحول، وأحيانًا بشكل عسكري من خلال التحالف الدولي الذي ساهم بإسقاط نظام الحكم في بغداد، أضف الى ذلك، الحملة العسكرية التي قادها الحلف الأطلنطي ضد نظام سلوبودان ميليوسوفيتش في صربيا، ومثل دعم ما سُمِّي بالثورة البرتقالية في أوكرانيا.

يعرف المراقبون ان لا تدخل أجنبي دون مردود إيجابي على الجهة المتدخلة، فمن الطبيعي ان يكون التدخل مقرون بخلق التوازن بين الوسائل والنتائج، معنى ذلك أن التدخل لو حدث دون مراعاة قاعدة التوازن، فيكون من شأنه استبدال وضع سيئ، بوضع لا يقل عنه سوءا، بل ربما يزيد عنه خطورة، وهو ما حدث في العراق عام 2003 على يد قوات التحالف الدولي.

كان التدخل في العراق، هو نقطة البداية للنموذج السيئ الذي خلفه لنا التدخل الخارجي بالشؤون الداخلية، اذ يفتقد وبشكل كبير لقاعدة التوازن، ولم تقف الكرة عند العراق فحسب، بل تدحرجت الى اكثر من منطقة ودولة بنفس الوسائل وبذات النتائج، فقد اقتصرت خطة غزو العراق على هدم النظام القائم، دون إعادة بناء الدولة.

اعترفت بذلك وزارة الخارجية الامريكية عندما كان وزيرها كولين باول، حيث قالت انها أعدت خطة تفصيلية ومدروسة لإعادة بناء الدولة بعد الغزو، ولتفادي الفوضى، لكن وزارة الدفاع تجاهلت خطة الخارجية، ورفضت تطبيقها، وكلنا شاهد على ما حصل في العراق وكيف تهدمت اركان الدولة القائمة رغم ان من عدم الانصاف ان نسميها دولة مع غياب شامل لملامح الدولة الحديثة،

ويطرح المؤرخ الأميركي مايكل دويل ليبيا نموذجا آخر على التدخل الذي يقتصر على إسقاط النظام فقط، ويتجرد من بقية الالتزامات التي تحكمها قواعد التدخل، والتي تتمثل في إعادة بناء الدولة، وتوفير الأمن والسلامة للشعب، وتوفير حياة كريمة تختلف تماما عما كانت في السابق.

دويل في كتابه «مسألة التدخل»، الصادر في عام 2015، يقر أن التدخل في ليبيا قد تجاوز بوضوح التفويض الممنوح له، بإسقاط حكم القذافي، وأنه تجاهل ما هو مطلوب بعد هذه الخطوة، وهو إعادة البناء سلميا، وتعمير الدولة، وهي مهمة رئيسية ثم تجاهلها تماما في الحالة الليبية.

وهنا لا يمكن لنا ان نفرق بين عنصرين ونفك الارتباط بينهما وهما التدخل وعلاقته باستراتيجيات تخص مصالح قوى خارجية، تريد تحقيقها قبل الشروع بالتدخل بعيدة كل البعد عن أحلام الشعوب وطموحاتهم، والنتيجة أن من تدخلوا سرعان ما رفعوا أيديهم عن مطالب شعوب هذه الدول.

لا اعر ف ان كان من حقنا طرح السؤال التالي، لماذا جميع العقد العربية يتم فتحها بأقفال اجنبية؟، فأصبح وكأن العرب مستوردين أساسيين للحلول بعد ان تفاقمت المشكلات، الى درجة ان البعض صار ينظر اليها وكأنها قاعدة لا مناص منها في معالجة أزمات المنطقة.

أي تحول حين يراد له ان ينمو ويكبر بظروف سليمة لابد من تهيئة ظروف خاصة اجتماعية واقتصادية كالدخل الفردي، والتعليم المنتشر، الى جانب توسيع مدنية المجتمع، والالتزام الكامل بالقيم والمبادئ المنتمية للمنظومة الديمقراطية، وخلاف ذلك سيكون التحول عسير ويسير ببطيء لا يمكن ان نشعر به في الوقت القريب.

اضف تعليق