q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

حداثة أم حداثات

الغرب ليس هو بداية الحضارة في التاريخ الإنساني ولا نهايتها، ولا يصح اختزال التجربة الإنسانية الطويلة والعظيمة عند عتبة الغرب، فلا هو أول من تقدم ولا هو آخر من تقدم، لذا فإن الحداثة لا يمكن أن تظل واحدة، وكأنه لا يوجد في العالم وفي التاريخ إلا الغرب...

اعتنى الباحث المغربي الدكتور محمد سبيلا بفكرة الحداثة، وبقي مهموما بها ومنشغلا، مدافعا عنها ومنافحا، منخرطا فيها ومنتميا، مقدما حولها قراءات ومطالعات فكرية ونقدية جاءت متتالية في تأليفات ومقالات متراكمة.

من هذه التأليفات بحسب تعاقبها الزمني، كتاب: (مدارات الحداثة) صدر سنة 1987م، وكتاب: (المغرب في مواجهة الحداثة) صدر سنة 1999م، كتاب: (الحداثة وما بعد الحداثة) صدر سنة 2000م، وكتاب: (النزعات الأصولية والحداثة) صدر سنة 2000م، وكتاب: (مخاضات الحداثة) صدر سنة 2007م، إلى جانب مقالات يصعب تتبعها وحصرها، فالحداثة هي الموضوع الأثير بالنسبة للدكتور سبيلا، وأصبحت -حسب قوله- الناظم الذي يؤطر ويستجمع روح اهتماماته الفكرية كافة.

من بين أقوال الدكتور سبيلا عن الحداثة، أثار انتباهي قول أبان عنه في عنوان مقالة له وسمها: (من الحداثات إلى الحداثة)، قدمها ورقة لندوة دولية نظمتها أكاديمية المملكة المغربية سنة 2017م، ونشرتها مجلة (يتفكرون) سنة 2018م، وأعاد نشرها في مجلة (المشروع) المغربية سنة 2019م، داعيا فيها إلى التوقف عند مقولة الحداثات المتعددة فحصا وتبصرا، مناقشا مدى صدقيتها ومشروعيتها الفكرية والتاريخية، متسائلا: هل سيرورة التاريخ هي من الحداثة إلى الحداثات أم من الحداثات إلى الحداثة؟ مرجحا في خاتمة القول ومنتصرا إلى الرأي الثاني، معلنا تمسكه بالحداثة، ومشككا في مقولة الحداثات المتعددة أو تعددية الحداثات.

وتوضيحا لرأيه اعتبر الدكتور سبيلا أن مقولة الحداثة حداثات هي من ناحية البيان نوع من التلطيف، ومن ناحية الفكر شكل من أشكال مقاومة الحداثة، نوع من التلطيف في نظره تماما مثلما سبق وتم تلطيف لغة البلدان المتخلفة، متنقلين معها من نقص في التطور، ثم إلى بلدان في طريق النمو، ثم إلى بلدان نامية، وهكذا.

وشكل من المقاومة في نظر سبيلا، منتجة خاصة لنواة الحداثة الفكرية العليا بسبب عسرها وعنائها، وتعذر جرعتها المرة، والمحصلة من هذه المقاومة تمطيط مفهوم الحداثة، وقطع حبل الوصل بنواته ونموذجه، وتحويله إلى مفهوم واسع ورخو.

وبعد مناقشات ومجادلات مع هذه المقولة، متوقفا عند مصادرها النظرية، متمثلة في: النزعة الثقافوية، والبنيوية، وأفكار ما بعد الحداثة، انتهى سبيلا في خاتمة المطاف إلى خلاصة نهائية قررها قائلا: (الحداثة سيرورة تاريخية كلية للعصور الحديثة، سيرورة مركبة وعنيدة، تولد لذاتها كيفيات ووسائط الانتشار عالميا، بدرجات وسرعات وتدرجات مختلفة عبر عدة مستويات أو عتبات، أولها الحداثة التقنية وهي أيضا مستويات ودرجات، والحداثة التنظيمية ابتداء من الاقتصاد إلى السياسة مرورا بالبنية الاجتماعية، وأخيرا الحداثة الفكرية أو الثقافية التي هي الشرط اللازم المضمر الذي يمكن أن يتحول إلى معيار حاسم في تقييم كل المستويات والعتبات الأخرى للحداثة).

لعل هذه هي أبرز أطروحة للدكتور سبيلا في موضوع الحداثة، أو أنها أبرز أطروحاته إثارة للجدل والنقاش، والمفارقة الشكلية فيها أنها جاءت في مناسبة عنوانها كان يعاكس هذه الأطروحة ويتفارق معها، متوسما بعنوان: (من الحداثة إلى الحداثات)، الذي اختارته أكاديمية المملكة المغربية ليكون موضوعا لندوتها الدولية، وأرادت منه السير باتجاه تأكيد التحول والانتقال من وضعية الحداثة الأحادية إلى وضعية الحداثات المتعددة، وإذا بالدكتور سبيلا من قلب هذه المناسبة يقلب صورة الموقف، ويعاكس السير، مخطئا له، ومنتصرا لوضعية البقاء في الحداثة، والعودة إليها بديلا من الحداثات المتعددة.

بهذا القول نكون في المجال الفكري العربي المعاصر، أمام أطروحتين متقابلتين ومتفارقتين في الرؤية والمنهج، الأطروحة الأولى تتبنى الدعوة من الحداثة إلى الحداثات، والأطروحة الثانية تتبنى الدعوة من الحداثات إلى الحداثة، فبعد أن كنا نظن أننا أمام أطروحة واحدة يمكن أن نلتقي عليها ونتوافق، وهي أطروحة الحداثات المتعددة، فإذا بنا أمام أطروحة ثانية مفارقة ومغايرة، يسجل لها أنها جاءت وكسرت رتابة الفكر، وحفزت الذهن، وجددت النقاش من جديد حول أصل الحداثة وأصولها.

من الواضح أن كل واحدة من هاتين الأطروحتين، لها بنيتها وأفقها ونقدياتها وحقلها الدلالي، تشتركان معا في طلب الحداثة وبلوغها، وتختلفان في طرق الوصول، بين من ترى أن الحداثة لها طريق واحد هو طريقها المستقيم الذي لا زيغ فيه ولا ضلال، وبين من ترى أن الحداثة لها طرق متعددة هي طرقها المستقيمة التي تتسع لأكثر من طريق ولا تتضيق بطريق واحد، فلا ينبغي أن نضيق على أنفسنا الدرب، فطرق الحداثة سالكة في اتجاهات متعددة.

من جانب آخر، إن التحول من الحداثة إلى الحداثات المتعددة، كان لا بد أن يحدث على مستوى الفضاء الفكري العالمي، بوصفه تطورا فكريا طبيعيا إن لم يكن حتميا متفقا مع منطق التاريخ وروحه، ومتناغما مع منطق تقاسم العالم بين الحضارات الكبرى، فالغرب ليس هو بداية الحضارة في التاريخ الإنساني ولا نهايتها، ولا يصح اختزال التجربة الإنسانية الطويلة والعظيمة عند عتبة الغرب، فلا هو أول من تقدم ولا هو آخر من تقدم، لذا فإن الحداثة لا يمكن أن تظل واحدة، وكأنه لا يوجد في العالم وفي التاريخ الإنساني إلا الغرب!

هناك حالة واحدة لا غير يمكن لنا فيها أن نقبل بالحداثة الأحادية، هي متى ما رفع الغرب يده عن الحداثة، وقبل بفك الارتباط وعدم التماثل بينه وبين الحداثة، فلا الغرب هو الحداثة ولا الحداثة هي الغرب، وإنما هي روح حضارية متوثبة ومتوهجة تمثلتها جميع الحضارات والمدنيات، مرت على الغرب كما مرت على الحضارات والمدنيات السابقة عليه، وستمر من بعده على الحضارات والمدنيات التالية عليه، وهكذا! ومن ثم فلا مكان للحداثة ولا زمان، فهل يقبل الغرب بهذا التصور ويركن إليه! أم يرفضه ويعترض عليه! تأكيدا لمركزيته، وتعزيزا لتفوقه، وبسطا لهيمنته!

تتمة لهذا السياق، فإن العالم كان بحاجة إلى التفكير في الحداثات المتعددة التي تتسع إلى مختلف التجارب الإنسانية العظيمة من جهة، وتسعى إلى تقويض فكرة المركزية الغربية المتبجحة التي ضاق بها العالم ذرعا من جهة ثانية، وإلى دفع الغرب وتحريكه نحو إصلاح الحداثة وتهذيبها من جهة ثالثة، ومن أجل الالتفات إلى الحداثات الصاعدة المنبعثة خارج المجال الغربي في اليابان والصين والهند وغيرها من جهة رابعة.

لا شك في معقولية هذه الاتجاهات الأربعة منفصلة ومتصلة، وكل اتجاه منها كاف لتأكيد التفكير في الحداثات المتعددة، فكيف مع تعاضدها!

ليس هذا فحسب، بل إن التفكير في الحداثات المتعددة يصب في مصلحة الحداثة نفسها، حتى بالمعنى الأحادي للحداثة، التي باتت بحاجة إلى تلمس أفق أو آفاق جديدة، قد تجدها في الحداثات المتعددة أو الحداثات المتغايرة.

وبات من المؤكد أن حداثة الغرب لم تعد في نظر العالم وبالذات عند المجتمعات الآسيوية الصاعدة والناهضة، بذلك الوهج المتألق الذي كانت عليه من قبل، ولا بذلك الإشعاع الساحر، ولم تعد تمثل لا النموذج الأمثل ولا النموذج المحتذى أو الفريد، وأصبح من الممكن مناظرة هذا النموذج الحداثي الغربي ومطارحته ونقده بنوع من الثقة والثقة العالية أيضا.

فقد وصلت ثقة الآسيويين في نموذجهم الثقافي والقيمي، لأن يقدموه بوصفه بديلا متفوقا على النموذج الغربي، بل يدعون الغرب إلى تبنى نموذجهم حتى يتمكن من تجديد نفسه.

وخلاصة ما ننتهي إليه أن من يفكر في الحداثة من داخل الحداثة الغربية وسطوتها، يصل إلى ما وصل إليه الدكتور سبيلا في التمسك بأحادية الحداثة، ومن يفكر في الحداثة من خارج الحداثة الغربية وسطوتها، يصل إلى القول المغاير الذي يرى أن الحداثة هي حداثات، وهذا هو التحول الحتمي في منطق التجربة الإنسانية العظيمة.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق