q
الاعتبار من وقع المشاكل التي مرت بها المجتمعات البشرية خلال الأشهر الماضية ومحاولة تحسين الواقع لتغيير المستقبل نحو الأفضل ينبغي ان يكون من أولويات المرحلة القادمة، لان تراكم الأخطاء يمكن ان يقود الى ما هو اسوأ \"المجهول\"، بينما التخطيط السليم والتعاون والتكاتف والتكافل الإنساني سيخفف من اثار...

ونحن نستقبل عام 2021 يتمنى الجميع ان يكون عاماً خالياً من الازمات والنكبات التي عانت منها المجتمعات البشرية في مختلف دول العالم، خصوصاً وان التداعيات الصحية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية والمناخية وما رافقها من اضطرابات وصراعات وتحديات وثورات، جعلت من الأرض مكاناً يعج بالمشاكل والمخاطر ويهدد سبل العيش الصالح فيه مستقبلاً، حتى ان أكثر المتفائلين يحذر من المزيد من الازمات الأكبر والأخطر في السنوات الخمسين القادمة، الامر الذي يستدعي إعادة النظر بالطريقة التي نعيش فيها –نحن البشر- وكيف تمكنا من تدمير كل شيء بدلاً من إعادة احياء "العالم الذي نركبه جميعاً".

الاعتبار من وقع المشاكل التي مرت بها المجتمعات البشرية خلال الأشهر الماضية ومحاولة تحسين الواقع لتغيير المستقبل نحو الأفضل ينبغي ان يكون من أولويات المرحلة القادمة، لان تراكم الأخطاء يمكن ان يقود الى ما هو اسوأ "المجهول"، بينما التخطيط السليم والتعاون والتكاتف والتكافل الإنساني سيخفف من اثار الماضي ويصلح ما افسدته انانية المصالح وسوء الإدارة والتفكير المادي الهادف الى الانفراد في الكسب على حساب الجميع، وتناسى الاخرون المعاني الإنسانية النبيلة والعودة الى الفطرة او الجانب الروحي التي أسست لبناء الانسان والحضارة وتعمير الأرض وحفظ من فيها بعيداً عن الماديات او التمييز.

الإنسانية كما يصفها المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) بانها: "وحدة واحدة، واللازم على الإنسان خدمة الإنسان الآخر مهما كان لونه وعقيدته واتجاهه"، ويوجب فيها: "أن ينظر الإنسان إلى أخيه الإنسان بعين إنسانية، فيساعده بأقصى ما يتمكن، ويخفف عنه المآسي، وينقذه من الأخطار".

للإنسان طاقات هائلة، وقدرة فريدة على تغيير الواقع، شرط ان تتوفر له الحرية في تحقيق التقدم نحو الامام: "إن الإنسان مطوي على أكبر قدر من الطاقات الوثابة، فإذا وجد الحرية الكاملة والظروف المناسبة تقدم تقدماً مدهشاً"، ومع ان مفهوم الحرية ومقدارها امر نسبي يختلف باختلاف البلد وثقافته ومقدار هامش الحريات الممنوحة له، الا ان هذا الامر لا يقف عائقاً امام قدرة الانسان على صنع التغيير، بحسب ما يشير اليه سماحة الامام الشيرازي: "على الإنسان أن يعمل بكل ما أوتي من قدرة وقوة لاستثمار طاقاته، وإذا لم يسمح له مجتمعه بسبب تخلفه يجب عليه السعي لتغيير ذلك المجتمع"، لذلك يرى الامام الشيرازي ان المجتمع الذي يقف عائقاً امام حركة التغيير نحو الأفضل عليه ان يسعى –الانسان- الى تغييره للنجاح في مسعاه.

وحتى ينجح الانسان في احداث الفارق في التغيير ينبغي عليه ان يدرك بعض النقاط الأساسية في سبيل تحقيق مبتغاه:

1. التدرج في عملية التغيير والوصول الى القمة: "لا يكون الإنسان من اليوم الأول عادلاً كاملاً أو زاهداً كاملاً أو شجاعاً كاملاً أو كريماً كاملاً أو عالماً كاملاً وإنما يصل إلى القمة تدريجياً".

2. التغيير يبدأ من الأشياء الصغيرة وصولاً الى تحقيق الأهداف الكبرى في عملية الإصلاح والتغيير: "يجب على الذي يريد التغيير، أن يعرف أن تجمع القطرات يسبب تكون البحار، وتجمع صغار الرمال يسبب تكون الصحاري".

3. الاهتمام بعملية الهدم والبناء ينبغي ان تكون بنفس طريقة الاهتمام بالأشياء الصغيرة وصولاً الى الأهداف الكبرى: "على الذي يريد التغيير، أن يجمع القطرات، من أجل هدم الأبنية السابقة، وتشييد الأبنية الجديدة، مهما طال الزمن، ومهما احتاج إلى ضم قطرة إلى قطرة، وذرة إلى ذرة، وعمل إلى عمل، وجهاد إلى جهاد، وذلك بفارغ الصبر، وجميل الانتباه".

4. التركيز على نوع "الثقافة" في عملية التغيير لتحديد المستقبل لأنها: "هي التي تعين اتجاه الإنسان، إن خيراً فخير، أو شراً فشر"، خصوصاً وان: "التغيير الثقافي يسبب تغييراً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً"، كما ان: "الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعين مستقبل الأمة"، لذلك ينبغي الميل نحو "الثقافة المشتركة" التي "توجب تفاهم الشعوب وذلك ما يسهل تأثير بعضها في بعض".

5. الأهم في كل ما تقدم هو "الاخلاق" لأنها كما يسميها الامام الشيرازي "جوهر الحضارات" لأنه ببساطة إذا كانت "الأخلاق خيرة كانت الحضارة خيرة والتف الناس حولها، وإن كانت الأخلاق سيئة كانت الحضارة سيئة وانفض الناس عنها، كما أن الأمر ليس بالادعاء وإنما بالواقع، فالمحبة الواقعية هي التي تنبت، والفسيلة الواقعية هي التي تورق وتزهر وتثمر".

ولكي ننجح في دراسة الواقع لتجاوز أسباب الفشل بعد تحديد مكامن الخلل والسعي نحو تغيير حقيقي، ينبغي توجيه عدد من الرسائل الى الجهات الأكثر قدرة في إدارة عملية الإصلاح والتغيير داخل مجتمعاتها للخروج من نفق الازمات المظلم ودوامة الاخطار التي لا تنتهي عن الدوران، والاستفادة من الموارد البشرية والطبيعية والاقتصادية والتكنولوجية في خدمة البشرية واسعادها وتقدمها ورفاهيتها بدلاً من ان تكون سبباً في تعاستها وشقائها عبر سياسة الحروب وتجهيل المجتمعات ونشر الاستبداد والفقر والامراض والآفات في كل بقعة من الأرض.

الرسالة الأولى: للتكنولوجيا، خلال القرن الماضي، اسهامات كبيرة جداً في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه البشرية طوال الاف السنين، اذ لها اسهامات كبير في تحقيق الامن الغذائي والوقاية الصحية وتقليل الجهد واختصار الوقت وربط المجتمعات البشرية والوصول الى الفضاء وغيرها الكثير من الإنجازات عبر اختراعات واكتشافات غيرت الكثير من المفاهيم الحياتية التي عاشها الانسان في الماضي، وما زال هناك الكثير ليتم اكتشافه في المستقبل القريب.

لكن للتكنولوجيا مخاطر تفوق اسهاماتها العلمية والعملية إذا تجردت من "الإدارة الأخلاقية" لها لتصبح تسونامي يدمر كل شيء يقف امامها، وهي حقيقة لا يمكن تجاهلها في الوقت الحاضر، فبقدر ما ساهمت فيه التكنولوجيا في تقديم الأفضل للإنسان، تم استغلالها كأداة لنشر الرعب النووي، وتدمير المجتمعات البشرية عبر نشر الامراض والمجاعات والجهل والارهاب، والهجمات السيبرانية واثارها المدمرة بين الدول، والحروب الفتاكة باستخدام الأسلحة المتطورة، وغيرها الكثير والتي راح ضحيتها مئات الملايين من البشر، لذلك ينبغي العودة الى الحكمة والإدارة الأخلاقية للتكنولوجيا لإرجاعها الى هدفها الحقيقي وهو اسعاد البشرية وتحقيق التقدم والرفاه والحياة الكريمة لها.

الرسالة الثانية: الشعوب امانة كبيرة في عنق الساسة وصناع القرار السياسي، لذلك ينبغي عليهم عدم التلاعب بمستقبل شعوبهم او اخضاع بلدانهم الى تجارب سياسية فاشلة وغير حكيمة قد تجر لهم المزيد من الويلات والأزمات من خلال سوء الإدارة واستشراء الفساد والإهمال المتعمد وانعدام التخطيط الاستراتيجي والاستبداد وسلب الحريات العامة والفوضى وانعدام الامن والتخبط والعشوائية في إدارة البلد سواء على المستوى الداخلي او الخارجي، وبالتالي الدخول في نفق الازمات والمصالح والتخادم وانعدام القدرة مستقبلاً على الخروج منه الا بصعوبة وتقديم المزيد من التضحيات والخسائر الكبيرة.

وقد وجه الامام الشيرازي السياسيين من اجل تجنب الدخول في خانة "الدولة الفاشلة" وتحقيق الاستقرار والنجاح بقوله: "ليس استقرار البلاد بالادعاء والكلمات الفارغة، والخطب التي تلقى من على منبر الإذاعة والتلفزيون، بل بفتح الجامعات وأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلا مصادرات ولا إعدامات، ولا ضرائب اعتباطية، ولا يخاف الناس من أن يتكلموا، أو أن يكتبوا".

الرسالة الثالثة: يعتبر الأكاديميون ثروة مهمة في اوطانهم، وهم الطبقة الأكثر قدرة بين طبقات المجتمع المختلفة على احداث التغيير والفارق في أي عملية إصلاحية داخل المجتمع، لأنهم من الطبقات المثقفة والواعية والقادرة على استيعاب وفهم التغيرات التي تطرأ في مجتمعاتهم وتشخيص أسبابها وإيجاد العلاج المناسب لها من اجل تصحيح مسارها او معالجة اخطائها.

لذلك ينبغي على هذه الطبقة ان تسعى للتفاعل والتواصل مع المجتمع بطريقة ديناميكية واقعية وعدم الانقطاع الذي قد يخلق فجوة بين الطرفين، اذ ان التواصل والانسجام سيؤدي الى خلق بيئة من الثقة بين الطرفين لتوحيد الجهود المبذولة من الطبقات الكادحة، والأفكار المطروحة من الطبقة الاكاديمية، من اجل الوصول الى مجتمع تقل فيه الازمات، بعيداً عن النظريات المستوردة او الأفكار الجاهزة التي لا تنطبق على هذه المجتمعات.

الرسالة الرابعة: من اهم المؤسسات القادرة على الإصلاح والتغيير هي المؤسسة الدينية لما تحظى به من مكانة مرموقة في نفوس وعقول الناس، كما ان دور المؤسسة الدينية في مختلف المجتمعات هو دور إصلاحي وأخلاقي وارشادي يعتمد على بناء الانسان الأخلاقي وتكامله الروحي، لذلك من الطبيعي ان تسعى المؤسسة الدينية في ممارسة هذا الدور الإصلاحي لتطوير الانسان والمجتمع وصولاً الى جميع المجتمعات البشرية في العالم.

اما إذا ابتعدت المؤسسة الدينية عن ممارسة دورها الإصلاحي لسبب او اخر، فان الميل الى المادية والرذائل الفكرية والخرافة والانحراف سيسيطر على المجتمع وبالتالي سيقع ضحية في فخ الازمات والمشاكل وسيصعب تصحيح هذا المسار في المستقبل، في حين يمكن ان تحقق المجتمعات التي تضطلع فيها المؤسسة الدينية بدورها الحقيقي في الإصلاح قفزات مهمة نحو المجتمع المتطور الخالي من الازمات والقادر على العيش بسعادة ورفاهية.

التوصيات:

1. ينبغي ان ندرك ان خلق عالم من الفقراء هو خلق لعالم فاشل لا يمكن الاستمرار في العيش فيه، وسياتي اليوم الذي يسقط فيه هذا العالم في هوة الاضطرابات التي لن تنتهي الا بحرق الأخضر واليابس، بينما العالم الذي يتقاسم فيه الجميع ما يملك من خيرات هو عالم مسالم وهادئ ينعم فيه الجميع بالسلام الحقيقي.

2. كان عام 2020 عام الثورات للشعوب المظلومة ضد كل قيم الفشل والتخلف والفساد والاستبداد، وهو بمثابة جرس الإنذار الذي ينذر بحركة أكثر عالمية وأكثر قسوة، ينبغي ان يدرك أصحاب القرار وأصحاب المصالح ان الوقت قد حان لتغيير حقيقي لا تستعبد فيه المجتمعات لحساب النخبة.

3. ينبغي احتواء الشباب والاستفادة من طاقاته الكبيرة وتوفير متطلباته واعتباره الركيزة الأساسية لتطوير وخدمة المجتمع، لان الشباب الذي نشأ في ظل التقدم التكنولوجي يمكنه ان يدمر هذا العالم من خلال هذه التكنولوجيا إذا ما شعر بانه مهمش او لا يشكل جزءً فعالاً في هذا العالم.

4. ينبغي اعتبار الانسان هو الهدف الأعلى الذي من اجله وجدت الدول والأنظمة والحكومات، وتوفير الحرية والكرامة والسعادة له هو الأساس في وجودها واستمرارها: وكما قال الامام الشيرازي (رحمه الله): "يلزم أن تكون حقوق الإنسان جزءاً من القانون الدولي، وألا تعد الانتهاكات اليومية التي تحدث لحقوق الإنسان في أي مكانٍ من العالم من الشؤون الداخلية للدولة، بل تصبح من اهتمامات المجتمع الدولي، وتتطلب تدخله فيها".

5. الابتعاد عن الصراعات التي لا تخدم الافراد ولا الدول بل تساهم في زيادة الأوضاع سوأ، والبدء في التفكير لخلق مناخ عالمي جديد يسعى الى تحقيق الرفاهية العالمية وتكافل الجميع من اجل سعادة البشرية جمعاء ومن دون استثناء.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2020
http://shrsc.com

اضف تعليق