q
الغربة عن العصر والهروب من الراهن، لا يؤدي إلا إلى المزيد من سيادة اللامبالاة في كل الاتجاهات والمستويات، بينما العيش في العصر وأدراك قضاياه وأموره يؤسس لحالة وعي جديد قطبها الأساسي، هو مشاركة الإنسان في صنع حاضره ومستقبله. فحجر الأساس في أسئلة الثقافة الوطنية، وهواجسها المستقبلية...

مفتتح:

في بداية النصف الأخير من القرن العشرين، أجرت مجلة (الهلال) المصرية استفتاءاً للكتاب والمفكرين والمثقفين العرب، عن تصوراتهم للعالم بعد نصف قرن أي في أوائل القرن الحادي والعشرين.

فأطلق الكتّاب والمفكرون لأنفسهم العنان، للتفكير في حال العرب، من مختلف النواحي والمستويات في نهاية القرن السالف.

والآن وبعد أربعين عاماً، عن ذلك الاستفتاء، مازالت تلك الاسئلة هي هاجسنا، وما زال التطور العلمي والتقني، الذي إنطلق بقوة وتصاعد هندسي يزيد في تهميشنا، ويقصينا من الفعل التاريخي النوعي، حتى أصبحنا في مؤخرة الركب الحضاري.

غير أن المعضلة كما يبدو لي لا تكمن هنا، بل في حالة اللامبالاة التي يعيشها العالم العربي تجاه واقعه ومستقبله. لأن مسألة التقدم والتأخر مسألة تاريخية ومرتبطة بالعديد من العوامل والأسباب، والمجتمع الذي يعيش التأخر، بإمكانه لو تمسك بأسباب التقدم وعوامل الوثوب، أن يخرج من هذه الدائرة.

بينما اللامبالاة، وحالة تبلد الإحساس تجاه هذه المسألة التاريخية، هو الذي يعد المعضلة الرئيسية. لأن اللامبالاة هي التي تبرر وتديم عملية الانحطاط الحضاري والهامشية التاريخية، وترسخ بشكل أو بآخر، كل أشكال الاستلاب والمسخ على المستوى الحضاري والاجتماعي. فهي (اللامبالاة) هي التي تجعلنا نبرر واقعنا، ونرمي بالتبعات على الجيل الذي سبقنا، وهي التي تحول الشكوى من الراهن، إلى نوع من أنواع النوستالجيا، التي تحن إلى ماض اندثر، لا يمكننا إعادته أو صناعة نموذج أكثر تطوراً منه ولا يمكننا بأي حال من الأحوال، أن نختزل هذه المشكلة في الجيل المعاصر بل هي المشكلة المزمنة في واقعنا الاجتماعي، والتي تأخذ العديد من العناوين واليافطات، ولكنها تعبر عن مضمون وجوهر واحد.

فالأفكار والتطورات التي سادت في العالم العربي في عصر النهضة هي ذاتها الأفكار، التي نقلت الكثير من الدول والبلدان من واقع الإنحطاط والهامشية إلى واقع التقدم والفعل التاريخي.

إلا أن الفرق الحضاري والتاريخي بين العالم العربي، وتلك البلدان (اليابان نموذجاً)، هو أن أفكار النهضة والانبعاث في العالم العربي، تبقى حبيسة فئة محدودة ومنعزلة عن الناس، ولم تصل هذه الأفكار إلى مستوى الدخول في النسيج الاجتماعي، بحيث تمارس دورها في التعبئة والتحشيد وصناعة الرأي العام. بينما في البلدان الأخرى، الأفكار تتمدد وتصل إلى مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، وتصبح جزءا من النسيج الاجتماعي.

وهنا ينبغي أن نتأمل ونتساءل بعمق حول أسباب هذه المفارقة التاريخية، حيث أن غياب الإرادة المجتمعية، هي التي ساهمت دون تحول أفكار النهضة ومشاريع الحداثة إلى وقائع قائمة وحقائق راسخة. واللامبالاة هو العنوان العريض الذي يحتضن كل الظواهر والعوامل التي تؤكد عطالة الإنسان وتواكله على غيره وعدم تحمله مسئوليته الإنسانية والوطنية.

لذلك فهي تؤثر وتوجه العامل والمزارع والموظف ورجل الأعمال وكل المستويات الاجتماعية. وبفعل هذا التأثير والتفاعل المتبادل، تضمر مشكلة اللامبالاة ويصبح الجميع مسؤولا عن تقدمه وإنعتاقه من عوامل التأخر. فمأزق واقعنا الاجتماعي ليس في أفكار النهضة وثقافات الانبعاث والتقدم وإنما في المساحة الاجتماعية التي تتأثر بهذه الأفكار والثقافات. وسيبقى واقعنا حبيس هواجسه الضيقة وأسير انكـــساراته التاريخية مادام موقف اللامبالاة هو السائد والغالب في الواقع العربي. وعلى ضوء هذا تعالوا نتساءل عن كيفية الخروج من هذا الداء المزمن.

القلق الحضاري:

ابتداء نقول أن سيادة حالة اللامبالاة وثقافة التبرير للذات ولوم التاريخ والأجيال السابقة، يؤدي إلى غياب كل عوامل الإبداع والابتكار في الواقع الخارجي. لأن شرط الإبداع النفسي هو الشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتقك تجاه وطنك ومجتمعك.

وحينما يغيب هذا الشعور، تخبو شرارة الإبداع، ويبقى التكرار والسكون هو سيد الموقف في كل شيء. وهذا يعني غياب الروافع والحوافز الذاتية للبناء والتطوير.

أما الشعور بالمسؤولية فأنه يولد في الإنسان دافعية البحث الدائم عن سبل التطوير وصناعة المستقبل الأفضل. مما يجعل الإنسان في حالة قلق حضاري دائم، يدفعه ويحفزه نحو التقدم والإبداع وصناعة واقع جديد، فالخروج من الداء المزمن يبدأ بتنمية الشعور بالمسؤولية الحضارية الملقاة على عاتق الإنسان في هذه الحياة.

والقلق الحضاري هو عطاء دائم، يتجه إلى العظيم من الأعمال وتجاوز نوعي لكل العقبات والمعضلات التي تحول دون إستمرار الانطلاقة الحضارية. فالخروج من شرنقة اللاإبالية، والانخراط في سياق تحمل المسئولية الاجتماعية والوطنية، يبدأ من الإنسان نفسه. فهو بعزمه وإرادته وإيمانه، يتمكن من تجاوز مرض اللامبالاة، وينخرط في تحمل مسئولية المساهمة في تقوية المجتمع وعزة الوطن. وهذا بطبيعة الحال يتطلب منا إعادة الاعتبار إلى مفهوم الفردية.

حيث أن هذا المفهوم والمصطلح يحمل في ثقافتنا السائدة بعض الظلال السلبية. وحتى يتضح مرادنا من إعادة الاعتبار إلى الفردية والمسئولية الذاتية نقول: أن الفردية تمارس على نحوين: نحو سلبي يتمثل في الاثرة والأنانية وغياب حالات التعاون وحب الأنا الذي يعمي البصيرة والحكمة. وهذا النحو من الممارسة ليس هو المقصود.

حيث أن هذه الممارسة، تزيد من أزمات واقعنا، وتدخلنا جميعا في دهاليز عبادة الشخصية بكل ما لهذه المقولة من متواليات وتأثيرات سيئة.

والنحو الآخر لممارسة الفردية، هو النحو الإيجابي الذي يعني الثقة بالذات والإيمان العميق بإمكاناتها ودورها في تحمل المسئولية والمساهمة في الشأن العام. ومقصودنا من إعادة الاعتبار إلى الفردية وفق هذا النحو. فكلنا مسئولون عن واقعنا، ولا تطوير وتقدم وخروج من المأزق، إلا بأن يتحمل كل فرد فينا من موقعه، ومن المجال الذي يحسن العمل فيه، مسئوليته، وذلك للخروج من سجن اللامبالاة، والانخراط في مشروع البناء والتطوير.

لنعش في عصرنا:

أن الانزواء من العصر والهروب إلى الماضي والتاريخ وعيش أحداثه وكأنها راهنه يعد من العوامل الأساسية التي تديم اللامبالاة، وتزرع لدى الإنسان حالة تبلد الأحساس تجاه مشكلات واقعه وقضايا عصره. لهذا فإن الماضي ليس بديلاً عن الحاضر، وكما أن للماضي رجاله ينبغي أن يكون للحاضر رجاله، فالمطلوب أن نعيش عصرنا لا أن نهرب منه ونعيش في عصور سالفة. وإن من أكبر التحديات التي تواجهنا كمجتمع، حينما نمارس القطيعة مع العصر.

ومن الضروري بيان أن إنجاز تنمية مستديمة وتحقيق مشروع وطني متطور، لا يمكن أن يكون بإنسان مهزوز في أوضاعه الثقافية. ولا يمكن أن نبني وطننا قويا، إلا بمواطن قوي، قادر على الانخراط في العصر بدون مركب نقص، ومتصالح مع نفسه، ومع هويته، ومع تاريخه.

ويشير إلى هذه المسالة الدكتور (شاكر مصطفى) (1) بقوله: كان التاريخ قارب نجاة للكثيرين مهرباً من الواقع المسكين أو كان غربة عن العصر بدلا من أن يكون اندماجاً متزايداً فيه. ومن هنا أيضاً تحل الاستمرارية التاريخية محل الأصالة يحل الإمتداد الوحيد الاتجاه محل الانطلاق المتفجر من كل الآفاق، وتلتوي الأصالة لتصبح تقليداً وعودة ذيلية إلى الأرض الأولى كما تعود الأشجار إستوائية لتجعـــــل من أعضــــــــائها جذوراً بـــــدلا من أن تصبح فروعاً للزهور والثمر [أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم](2)

وينبغي أن نتذكر، أن الغربة عن العصر والهروب من الراهن، لا يؤدي إلا إلى المزيد من سيادة اللامبالاة في كل الاتجاهات والمستويات، بينما العيش في العصر وأدراك قضاياه وأموره يؤسس لحالة وعي جديد قطبها الأساسي، هو مشاركة الإنسان في صنع حاضره ومستقبله.

فحجر الأساس في أسئلة الثقافة الوطنية، وهواجسها المستقبلية، هو الخروج من دائرة اللامبالاة، والإنعتاق من تداعياتها المميتة. وبدون ذلك ستبقى أسئلة الثقافة، وهواجس المستقبل وكأنها أحلام اليقظة المستعارة. والمشهد الثقافي الوطني اليوم، هو بحاجة أن يستشعر كل مثقف وأديب ومبدع بدوره ومسئوليته. وأنه لم يعد مجديا الهروب من تحمل المسئولية، أو الانزواء والانعزال. وإنما المطلوب أن يتحمل كل مثقف وأديب ومبدع مسئوليته الثقافية والوطنية، وذلك في سبيل تطوير المشهد الثقافي الوطني، وإخراجه من حالة السكون والمراوحة في المكان ذاته. وهذا بطبيعة الحال يتطلب منا التأكيد على النقاط التالية:

1- إن إصلاح أوضاعنا الثقافية، وتأسيس بنية ثقافية وطنية قادرة على احتضان كل مفردات العمل الثقافي والأدبي والفني على مستوى الوطن من أقصاه إلى أقصاه، يتطلب منا جميعا (المؤسسات الثقافية الرسمية والمنابر الإعلامية والثقافية والشخصيات الثقافية والأدبية) العمل على تأسيس مشروع ثقافي وطني، يأخذ على عاتقه تطوير العمل الثقافي الوطني، وإنهاء كل الكوابح التي تحول دون استمرار الإبداع والعطاء الثقافي المتميز.

ومن الضروري أن يمتلك الجميع إرادة التحول والتطوير، وعدم الدخول في مضاربات أيدلوجية أو تبريرات أكل عليها الدهر وشرب. إن تجسير الفجوة بين ما هو كائن على الصعيد الثقافي والإبداعي وما ينبغي أن يكون، يتطلب رؤية وطنية جديدة للمسألة الثقافية، وإرادة جمعية تتجه صوب تذليل العقبات التي تمنع وتحول دون الانطلاقة الثقافية الجديدة.

2- عديدة هي المعطيات التي تجعلنا نعتقد بشكل جازم، أنه آن الأوان لتطوير العمل والنشاط لدى المؤسسات الثقافية والأدبية المتوفرة في مختلف مناطق الوطن، والعمل وفق سياسة ثقافية جديدة، لتأسيس جمعيات وأطر ثقافية جديدة تأخذ على عاتقها تحريك وتنشيط الساحة الثقافية الوطنية. فإننا أحوج ما نكون اليوم، إلى تأكيد قيمة الوحدة الوطنية وضرورة تمتينها وحمايتها من كل المخاطر المحدقة.

ولا ريب أن العمل الثقافي المؤسسي والفاعل والبعيد على كل أشكال البيروقراطية والشكلية، من الروافد الأساسية التي تساهم في تمتين خيار الوحــدة الوطنية وحمايتها من كل المخاطر والتحديات. فالعالم كله بعد أحداث سبتمبر وتطوراتها المتلاحقة بدأ بالتغير والاستعداد للانخراط في مرحلة دولية جديدة، والعمل على حماية منجزاتهم ومكتسباتهم من كل المخاطر. وإننا أيضا مطالبون للقيام بذلك، وذلك من أجل حماية مكتسباتنا ومنجزاتنا، والعمل على تطوير أوضاعنا حتى تتمكن من مواجهة كل التحديات المحتملة. والحقل الثقافي من الحقول الوطنية المهمة، التي ينبغي أن يتم التفكير بصياغة استراتيجية ثقافية وطنية، تجيب على تحديات المرحلة، وتبلور رؤية وطنية للذات والآخرين.

3- أن هناك حاجة ماسة على الصعيد الوطني بأسره، للعمل على خلق فرص وفضاءات لاحتضان التعابير والإبداعات الفنية والثقافية كمراكز ترويج الكتاب ودور عرض الإنتاج التشكيلي والرسم والخط. وإقرار حياة التعدد الثقافية والإبداعية، وإخراج المبدعين من حالات الهامشية والانكفاء.

طرح الأسئلة:

وإن الاستناد إلى منجزات الماضي ومكتسباته، دون تهيئة الظروف والمناخات، والعمل المتواصل لتطوير الراهن وإزالة معوقاته وكوابحه، يؤدي إلى خمول الثقافة الوطنية وترهلها ويحولها إلى عامل للتبرير بدل أن تكون حافزا للتقدم والتطور. وحينئذ سنبدأ كأفراد وكمجتمع من اللجوء إلى الظواهر والأشكال، ونبتعد عن المضمون والجوهر. وإن بداية الخروج من هذا المأزق الثقافي ـ الاجتماعي، تتجسد في طرح الأسئلة الجادة والانخراط في حوارات مستفيضة للتوصل إلى إجابات حقيقية عن هذه الأسئلة. فلا ثقافة وطنية حية، بدون أسئلة تتوجه إلى السائد وتحاكمه وفق المثل والمبادئ العليا لثقافتنا الوطنية.

ومن الضروري بالنسبة لنا جميعا، أن نتعامل مع هذه الأسئلة التي تبدد الجمود وتحرك السكون باعتبارها ضرورة من ضرورات حياة الثقافة الوطنية، كما من الضروري أن نبتعد عن كل أشكال ترذيل هذا النهج والتصور، الذي يعطي للأسئلة الجوهرية والجادة موقعها المركزي في مسار ثقافتنا الوطنية. ولا ريب أن وطننا العزيز على الصعيد الثقافي شهد تطورات عديدة وكبرى، إلا أن ظروف العصر وتحولاته وضغوطاته، هي في كثير من الأحيان التي اضطرتنا إلى ذلك.

وهذا يحملنا مسئولية كبرى في هذه الفترة من الزمن، حيث إننا بحاجة أن نمارس الفكر وطرح الأسئلة وذلك لمنح ثقافتنا الوطنية الحيوية والفعالية بما يؤهلها إلى تأمين معالجات لمشاكل عصرنا وتحديات واقعنا. والثقافة الحية دوما، هي التي تبادر إلى طرح الأسئلة، بل وتكون رائدة في طرحها قبل أوانها، أي أنها تستشف وتكتشف ما يكون عليه وطننا والعالم في المستقبل المنظور، وطبيعة القضايا المثارة، وكيفية معالجة ما نواجهه يوم ذاك.

فالثقافة الحية ليست هي التي تفاعل مع راهنها فحسب، بل هي التي تمتلك القدرة على اكتشاف مستقبلها وتهيئة الظروف والمناخات اللازمة، للاستفادة القصوى من كل التحولات والتطورات. فليس كلما هو سائد من ثقافتنا صحيحا، لهذا ينبغي أن نمنح لثقافتنا أصالة، وذلك عبر مساءلة السائد، والانطلاق من موقع السؤال والشك المنهجي للوصول إلى اليقين، إذا كان في الثقافة يقين ونهاية.

التعليم وآفاق المشروع الثقافي

من الطبيعي القول: أن التعليم بمناهجه وأنظمته التربوية، من الروافد الأساسية لعملية التنمية الثقافية والعلمية، إذ لا يمكن أن يتطور الحقل الثقافي في أي مجتمع، بدون تطور حقل التعليم والتربية. فهو أحد أعمدة التقدم الثقافي. وذلك لأن التربية التعليمية الوعاء الحاضن لمجموع الطاقات ذات الفعل الإيجابي على المستوى الإجتماعي

اذ أن التربية التعليمية تسعى إلى تشكيل الارادات، وإكتشاف المواهب، والتعرف من قرب على القابليات والميول، والعمل على تزويد هذه الطاقات الفتية بالمهارات التي تمكن المرء من الرقي من مستوى كفاءته وعطائه الفعلي، وتؤسس الرغبة العميقة للإندفاع صوب الثقافة والعلم.

ومن هنا فإن أي خلل يصيب جهاز التربية، ينعكس بشكل مباشر على كافة حقول الحياة وجوانبها.. لذلك نجد أن الولايات المتحدة الإمريكية في عهد (كنيدي) حينما سبقت بإرتياد الفضاء من قبل الإتحاد السوفيتي، اعتبرت أن السبب في ذلك هو فساد النظام التربوي التعليمي، وعجزه عن إخراج المبدعين، فتشكلت اللجان المتخصصة لإنقاذ ما أسمته بـ (الأمة المعرضة للخطر).. ويقول الخبير الإقتصادي الأمريكي (روبرت د.هورماتس) عندما سئل عن أهم مشاكل الإقتصاد الأمريكي قال: أن نظام التعليم الذي لم يلق أهتماماً كافياً.. أما البرفسور (الآن بنوم) الأستاذ في جامعة شيكاغو فقد تحدث في أحد فصول كتابه (أغلاق العقل الأمريكي) الذي أحدث عام (1988م) ضجة في الأوساط الاكاديمية الأمريكية، عن إخفاق التعليم العالي في مجال الحرية، وعن فشل المدارس في بث الثقافة الأساسية لدى الطلبة.. وقال: أن معاهد الدراسة أصيبت بداء الكسل الفكري فأنتجت جيلاً يفتقر إلى مقومات الحس الحضاري. فأي خلل يصيب الجهاز التربوي والتعليمي، فإنه يؤثر بشكل مباشر على كل مجالات الحياة. وذلك لإن هذا الجهاز، هو الذي يوفر الكادر البشري والعقلية الإدارية وطبيعة نظام وثقافة العمل. لذلك فإن الإصلاح يبدأ من التعليم، والتغيير لا يمكن أن ينجز إلا إذا أصبحت مناهج التعليم منسجمة وضرورات التغيير وضروراته.

والتعليم في حقيقته وجوهره هو تلك الدروس اليومية التى يأخذها الطالب في المدرسة..بل هو قبل ذلك، فلسفة كاملة، تسهم في بنائها وتحقيقها كل المواد الدراسية والمعارف والممارسات، التي تبدأ مع الفرد إبتداءً من طفولته التي تغرس فيها بذور مستقبل حياته السلوكية، وتنمي فيها حواسه، ومروراً بكل موارده الثقافية والعلمية والتدريبية، وإنتهاء بمجموع الخبرات والمسالك المتراكمة التي يتحصل عليها في شيخوخته وينقلها إلى الأجيال المتداخلة من بعده.

وبالتالي فإن التعليم هو التنمية وهو الرحم الذي تزرع فيه الأجنة وتتعهد، لتنطلق في جميع مجالات الحياة.. وإلى هذا فإن العملية التعليمية في مختلف مراحلها، ينبغي أن تكون فلسفة وأهدافا ومحتوى، متجهة نحو تطوير قدرات الإنسان العقلية والفكرية، حتى يتسنى للطالب من مواكبة التطورات العلمية الهائلة التى تشهدها البشرية في هذه الحقبة من الزمن.

ومن المؤكد أن تطوير العملية التعليمية، بما ينسجم وتطورات العصر سيساهم بشكل نوعي وأساسي في إعلاء شأن الثقافة والمعرفة في المجتمع.. لهذا فإن هناك علاقة سببية (جدلية) بين التعليم والثقافة، وتعميمها في وسط المجتمع.. وبهذا فإن التعليم يصنع المحيط الإجتماعي الملائم لأزدهار الثقافة ونموها.. لأن التعليم الذي يتجه إلى غرس القيم العليا في نفوس الناشئة، سيفضي إلى التحول الإيجابي على نجد أن التعليم في كل بلد، يعكس أوضاع ذلك البلد التاريخية والإجتماعية والفكرية فالمناهج التربوية والتعليمية مسئولة إلى حد بعيد، عن طبيعة التوجهات الثقافية والفكرية السائدة في المجتمع.

فالمنهج الذي يعلي من شأن التفكير والفهم بدل الحفظ والتلقين، فإنه سيؤسس لثقافة في المجتمع تعلي من شأن السؤال والحوارات الثقافية التي تتجه إلى بلورة الرأي وصياغة الموقف. كما أن المنهج التلقيني، يؤسس إلى عقلية تتعامل مع الثقافة كسلعة بالإمكان شراؤها. لذلك فإن تطوير الحقل الثقافي في بلادنا، يتطلب إعادة النظر في طبيعة المناهج التربوية والتعليمية، والعمل على تطويرها بما ينسجم وتطلعات الوطن.

وعلى المستوى التاريخي لعب التعليم دوراً أساسياً في التبــــشير بالقيم والأنساق الفكرية المختلفة.. ومن هنا تنبع أهمية الحفاظ على الآثار والرموز الثقافية والتاريخية للمجتمع.. لما تشكل من محيط ثقافي تاريخي ـ معاصر، يدعم العملية التعليمية ويوضح محتوياتها ومضمونها.. لأن التعليم ليس ذا بعد واحد يرتبط بالراهن فقط، بل هو ذا ابعاد، تراجع جذوره إلى التاريخ، ويمده حاضره إلى آفاق المستقبل وتطلعات المجتمع.

وعلى هدى هذه الحقائق نقول: أن التعليم وتطويره، والثقافة وإعلاء شأنها في المجتمع، يعدان من الأسس الجوهرية للنجاح في تنفيذ خطط التنمية في المجتمع.. لأنهما يؤسسان القواعد النفسية، والعقلية، لإستيعاب برامج التنمية وخطواتها المختلفة وعلى هذا فإن مشاريع التعليم والتثقيف الإجتماعي، لاتعد مشاريع إستهلاكية، بل هي من صميم العمليات الإنتاجية، لأنها تتجه لبناء الإنسان وهو الرأسمال الحقيقي لأي مجتمع.

ولتوضيح العلاقة الجدلية، التى تربط بين التعليم والثقافة نذكر النقاط التالية:

∗ أن التعليم ليس مفصولاً عن العملية الإجتماعية، وانما هو جزء منها لذلك فينبغي أن تنبع فلسفة التعليم وخلفيته الأكاديمية من حاجات المجتــــــمع الجوهرية، حتى يكون هناك إنسجام وتناغم بين ما يأخذه الإنسان في قاعات الدرس وما يجده في الشارع.. ويقول (فيرث): اذا نظرنا إلى المجتمع على أنه يمثل مجموعة من الأفراد، فإن الثقافة طريقتهم في الحياة. واذا اعتبرناه مجموعة العلاقات الإجتماعية فإن الثقافة هي محتــــوى هـــذه العلاقات، واذا كان المجتمع يهتم بالعنصر الإنساني وبتجمع الأفراد، والعلاقات المتبادلة بينهم فإن الثقافة تعني المظاهر التراكمية المادية واللامادية التي يتوارثها الناس ويستخدمونها ويتناقلونها وللثقافة محتوى فكري ينظم الأفعال الإنسانية، وهي من وجهة النظر السلوكية سلوك متعلم أو مكتسب إجتماعياً، وهي فوق كل ذلك ضرورية كحافز للفعل.

∗ إن التطوير الإجتماعي والرقي بالإنسان إلى الأعلى، يعتمد على قطبين أساسيين هما التعليم والثقافة.. حيث أن لهما مدخلية أساسية في زيادة الإنتاج على المستوى الفردي والجماعي.. لأن تكامل العملية التعليمية مع الثقافة، يؤسس على المستوى الإجتماعي عملية مثاقفة واعية ورشيدة، تتجه إلى طاقات الإنسان الكامنة فتفجرها، وإلى سلوكه فتهذبه، وإلى طموحاته فتشر عنها.

ولهذا فإن المثاقفة في الدراسات الأنتروبولوجية تعني: العملية التي يكتسب الفرد أو الجماعة عن طريقها خصائص ثقافة آخرى من خلال التفاعل والاتصال المباشر، أو هي اكتساب الثقافة بالمشاركة والاتصال، أو هي عملية التغير الثقافي، الذي ينجم عن الاتصال المستمر بين جماعتين متمايزتين ثقافياً.. لهذا فإن تناغم وإنسجام وتفاعل التعليم والثقافة، وتوفير علاقة تكــــــــامل بينهما، هو الذي يحول المجتمع إلى مجتمع مبدع ـ متحضر، قادر على المســــاهمة الإيجابية في الحضارة الإنسانية.. وإن هذا التكامل والتزاوج، هو الذي يبني عقلية الثقة بالذات وإمكاناتها، والإعراض عن التقليد الأعمى، والاستعارة المنهجية، والإستنسلاخ الحــــرفي للغير إلى طريق الإبداع ومشروع التنمية الشاملة.

وإن العلم والمعرفة يعدان اليوم وفق المقاييس الحديثة أهم رأسمال في عالم اليوم، والمجتمعات التي تصدر العلم والمعرفة ومنتجاتهما اليوم، هي من المجتمعات المتقدمة والتي تحظى باحترام وتقدير الجميع.

ولقد تمكنت بعض الدول من تعزيز بنيتها الاقتصادية والاجتماعية من خلال انتاج المعرفة ووسائلها المتعددة. لهذا فإننا من الضروري أن ننطلق في مشروع وطني يستهدف تعزيز وتطوير البعد النوعي للعلوم في وطننا والعمل على انجاز تراكم علمي في بيئاتنا ومعاهدنا ومؤسساتنا البحثية والعلمية.

وهذا يتطلب منا جميعا، ومن مختلف مواقعنا ومسئولياتنا، تغيير وتطوير نظرتنا إلى المعرفة والثقافة والجهود البحثية والعلمية. إذ أنهم جميعا بوابة التقدم الحقيقي لمجتمعاتنا، وعناصر قوتنا وعزتننا الوطنية. وإن مراكز البحث ومعاهد العلم في مجتمعنا، بحاجة أن تتوفر لديهم إمكانية تطبيق معطيات أبحاثهم ونتائج دراساتهم في المجال الاجتماعي. وذلك حتى يتحقق التناغم والتواصل المطلوب بين مراكز البحث ومواقع الانتاج والتنفيذ والإدارة.

ومن الضروري أن نشجع مؤسساتنا وشركاتنا ودوائرنا الاقتصادية والصناعية، لتخصيص ميزانية للبحث العلمي واستقطاب الكوادر البحثية، التي تهتم بتطوير العمل والانتاج والإبداع.

فلا يمكن تطوير الأداء الوطني في المجالات الاقتصادية والصناعية والعلمية، بدون القيام بجهود مؤسسية للبحث والإبداع. ليس فقط في مجالات العلوم الأساسية والفنية، بل من الضروري أن يشمل هذا الجهد البحثي المجالات الثقافية والاجتماعية. ومن المهم أيضا في هذا الإطار، البحث عن آليات ممكنة وعملية لرفع مستوى العمل العلمي والبحثي في مجتمعنا، ونشعر بحاجة ماسة إلى تأسيس جهة علمية ـ ثقافية تعتني بنشر الرسائل الجامعية والأبحاث العلمية لأنها تتضمن الكثير من نقاط الإبداع والأفكار الجديدة.

أين نقف اليـــوم ثقافــياً:

في هذه الحقبة الزمنية المليئة بالأحداث الجسام والمنعطفات العلمية والتكنولوجية الهائلة، التي أوصلت الإنسان إلى الفضاء وشكلت علاقة حيوية بين الأرض والفضاء وفي أحشائه تحولت الكثير من أحلام الإنسان العلمية، إلى حقائق علمية ومنجزات تقنية فاقت كل التصورات.

في هذا القرن الذي برزت فيه نظريات ومعارف شتى، بعضها تعرض للإندثار والنسيان وبعضها الآخر، لازال يوجه الإنسان ويرسم له منهاج عمل وخريطة حياة.

وجماع القول: أنه قرن يغص بالأحداث والرجال الذين عملوا على تغيير الكثير من المسلمات والبديهيات العلمية والاجتماعية والسياسية.

في هذه الحقبة من المفيد أن نتساءل: أي ثقافة نريد، وتنبع أهمية هذا السؤال، في هذا الزمن العربي المليء بالهزائم والانكسارات والهجوم الدولي بكــل أسلحته وتقنياته لاحتوائنا والسيطرة على مقدراتنا، وتوجيهنا الوجهــة التي تناسب تطلعاته وخططه الدولية.

ابتداء ينبغي التمييز بين ما هو واقع وبين ما نريد، بين التطلعات وبين الحقائق، حتى نتمكن مما نريد تحقيقه أولاً بأول. وأن الثقافة التي نريدها أن تتبلور في أذهان الناس وتتفاعل معها أرواحهم وعقولهم وتنعكس في أعمالهم وسلوكهم هي ثقافة البناء والتعمير، لا ثقافة الهدم والتدمير، ثقافة تعلي من شأن المبادرات الإيجابية والإنسانية حتى ولو كانت نابعة وصادرة من أعدائه، ثقافة تنشد اتباع الأحسن، بصرف النظر عن قائلـــه أو فاعله [الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه](3). ثقافة تبحث عن النعم لتحدث بها الناس وترغبهم فيها، لا ثقافة الترهيب والسوداوية.

ثقافة تبحث عن كل سبب ووسيلة إنسانية للبناء والتعمير وتتشبث بها، ثقافة تغرس في صاحبها الوفاء والإخلاص والصدق وإتقان العمل، وبذل الجهد والطاقة في سبيل التطوير والإبداع بصرف النظر عن المردود المادي لهذه المسألة، ثقافة تجعل صاحبها شعلة نشاط وحيوية في سبيل عزة الوطن ورفعة المواطنين.

وأن ثورة الاتصالات الشاملة التي يشهدها العالم اليوم يجعلها كفيلة بأحداث تغيرات واسعة النطاق في المنظومات الثقافية وشبكة العلاقات الإنسانية بمختلف مستوياتها تقترب كل هذه التغيرات والتطورات، من تشكيل نمط حضاري ـ كوني جديد، مما يعكس هذه التطورات على مسارات الإنسان وخياراته كلها الخاصة والعامة. إذ أن البشرية اليوم خطت خطوات هائلة في المبتكرات التقنية وثروة المعلومات والاتصال و"التقت اتصالات عصر الفضاء والمعلوماتية والإلكترونيات البصرية مع الوسائل الإعلامية لمفهومها التفكيري لتتيح للناس تشكيلة لم يسبق لها مثيل من الأدوات ـ تتراوح في التلفون الذي يستخدم القمر الصناعي إلى شبكة إنترنت ـ مما سمح لهم بتنويع مداركهم والتعبير عن آرائهم والتفاعل مع بعضهم، وفهم المتغيرات والتصرف إزاءها ودعم الفكر الإنساني، وإذا كانت بعض هذه الأدوات مكلفة إلى درجة تجعلها حكرا على قلة على مر السنوات القادمة، فإن تكلفة الوحدة في معظم تكنولوجيا الاتصالات قد هوت. وأدى انخفاض التكاليف ومتانة الصنعة وسهولة تداولها، إلى أن تمتلك المجتمعات الصغيرة هذه القدرات في حجم لم يكن يتصوره أحد منذ عقدين مضيا، كما أن تفتيت تطبيقات هذه التكنولوجيا، يمكن أن يضفي المقدرة على كل فرد " (4).

ولعل من أهم الحقول التي تحتاج إلى عناية وتطوير مستوى العلاقة، هو حقل الإعلام والثقافة، إذ أن تطور تقنيات الإعلام، أوجد تــحدياً حقيقياً لحقل الثقافة وأن قائمة التساؤلات التي تثيرها هذه المسألة واسعة وتتطلب التفكير العميق فيها والبحث عن إجابات عليها. ولاشك أن تزاحم الفضاء بالعديد من القنوات العلمية والخبرية والتجارية، يدفعها إلى التأكيد على ضرورة التميز في مشروع القنوات الفضائية العربية، لكي تضمن لها موقعاً متقدماً في مصاف القنوات الفضائية الدولية، وذلك عبر إيجاد دورات برامجية نوعية تلبي حاجة المشاهد وتتعدى نوعياً برامج القنوات المنافسة.

وحينما نتحدث عن الثقافة بمشاريعها وآفاقها ورموزها في برامج القنوات الفضائية العربية لا نقصد بذلك أن تتحول القناة وكأنها أشبه ما تكون بالمجلة الثقافية، وإنما نحن نقصد بالثقافة هو عناية المؤسسات الإعلامية بالثقافة عبر برامج متعددة وقاعدة برامجية متنوعة بتنوع المشاهد ومتعددة بتعدد الرغبات والحاجات. ويحكي نيلسون مانديلا في سيرته الذاتية ما حدث خلال توقفه في منطقة جوس باي شمال القطب الشمالي حيث قدمت مجموعة من شباب الإنويت لمحاولة الالتقاء به: علمت من كلامي مع هؤلاء الشباب الأذكياء أنهم شاهدوا إطلاق سراحي عبر التلفزيون، وكانوا يعرفون مجرى الأحداث في جنوب أفريقيا. وصاح أحدهم (عاش المؤتمر الوطني الأفريقي).. والإنويتي، هم شعب من السكان الأصليين اسيئت معاملتهم تاريخيا من جانب السكان البيض المستوطنين، وتوجد أوجه للشبه بين محنة السود في جنوب أفريقيا وشعب الإتويتي. إلا أن ما هزني بشدة هو كيف تقلص حجم الكوكب خلال العقود التي أمضيتها في السجن، لقد أدهشني أن شابا من الإنويتي يعيش في سقف العالم أستطاع أن يشاهد إطلاق سراح سجين سياسي في أقصى جنوب أفريقيا، لقد قلص التلفزيون حجم العالم وأصبح بذلك سلاحا عظيما لمحو الجهل وتشجيع الديمقراطية.

وهذا يدفعنا إلى التأكيد على الأمور التالية:

1) ضرورة الموازنة الدقيقة والواعية بين متطلبات السوق والانتشار واستراتيجية المؤسسات الإعلامية العليا.

2) تكييف رغبات المشاهدين مع متطلبات مشروع التنمية الشاملة.

3) مراعاة مسائل الجدوى الاقتصادية:

ولعل من الأهمية بمكان القول أن طبيعة الإدارة هي التي تتحكم في مستوى المردود الاقتصادي للمؤسسة الإعلامية والقناة الفضائية كأداة إعلامية متطورة ذات آفاق عديدة ونوعية في المجال الاقتصادي والاستثماري.

ولا ريب أن تحويل إدارة قطاع الإعلانات في القناة الفضائية إلى القطاع الخاص لما يشكله هذا القطاع من ثقل اقتصادي ومالي في الحياة المعاصرة، من الخطوات المهمة التي تحافظ على مستوى معين للجدوى الاقتصادية والمالية، ولا بد من بيان أن تجربة تلفزيون الكويت في هذا الصدد كانت ناجحة ومشجعة.

إذ سجل مجــــــــموع الصــــرف على الإعلانات التلفزيونية في تلفزيون الكويت خلال شهر (سبتمبر ـ أيلول) عام (1995م) ارتفاعاً نسبته حوالي (30%) عن ذات الشهر من العام الماضي. وذلك أثر تحويل إدارة قطاع الإعلانات في تلفزيون الكويت إلى أحدى شركات القطاع الخاص وهي شركة (سبوت).

والقطاع الخاص حينما يتحمل مسؤولية الإعلانات، فإنه سيقوم بمجموعة من الإجراءات التنظيمية لتسهيل عملية حجز الإعلان ودقة موعد بثه، واعتماده في عملية التسويق على الإحصاءات التي تصدرها الشركات العربية أو الأجنبية المتخصصة في هذا المجال كالشركة العربية للدراسات والبحوث الاستشارية.

أننا في العالم العربي والإسلامي، نقف اليوم ثقافياً وحضارياً أمام تحديات عديدة تتطلب منا جميعاً أفراداً ومؤسسات، العمل وفق إستراتيجية واضحة المعالم للدخول الإيجابي في هذا العصر وذلك من خلال:

1) العناية الجادة بتطوير أنشطة المؤسسات الثقافية العربية على المستوى النوعي والكمي حتى يتسنى لهذه المؤسسات تحقيق قفزات نوعية في مسيرة العمل الثقافي العربي.

2) تنظيم العلاقة بين الإعلام بأدواته المختلفة، والثقافة بمناشطها المتنوعة حتى يتسنى لوسائل الإعلام العربية القيام بدور فعال في هذا الصدد. ولا شك أن تنظيم العلاقة بين هذين الطرفين، بحاجة إلى دراسات شاملة ووعي عميق بمسؤولية كل حقل في عملية التطوير والبناء.

وفي الأخير: فإن الراهن الثقافي يحتاج إلى الكثير من الجهود والإستراتيجيات الجادة والإرادات الواعية لوصلة بتطلعات الأمة الحضارية والإنسانية. وأن الإجابة على السؤال (العنوان)، يتطلب توفير الجهود النوعية من كل المواقع والآفاق المتاحة.

المكان الثقافي.. رؤية في المهام

يعتبر المكان الثقافي تعبيراً عن غايات الوجود البشري ورفع مستوى الحياة من رتابة اليومي إلى مشاغل الوطن وقضاياه الحيوية. والمكان الثقافي حوارات وتوق دائم إلى عدم الزوال، لأنه تعبير عن غايات وتطلعات غير قابلة للانتهاء، إنها تطلعات تطوير المجتمع والبحث عن سبل شتى للإنعتاق من معوقات هذا التطوير وعلى حد تعبير (عقل العويط)(5) من سمات المكان الثقافي الخلاق، أنه يجعل من مواصفاته الحسية احتمالات لمواصفات معنوية وروحية، تكون على صلة بجوهر الأشياء ومبرراتها الكيانية التي لا تفني، بل من سماته القصوى أن الحسي يصبح رديفاً للمعنوي الروحي بل مرآته، ممتزجاً به وغائرا في أعماقه حيث امتناع الانفصال والفصل وحيث التجليات تتخذ أشكالا شتى تراوح بين الشعرية الحياتية والشعرية الإبداعية.

والمكان الثقافي وفق هذه السمات والمواصفات، لا يوحي أن خارجها لا ثقافة أو بعيدة عن همومها وتطلعاتها. وإنما هي تطمح لأن تتولى رياديا في سبيل الإعلاء من شأن الثقافة وأقطابها وحملتها بأجيالهم المتعددة وصولا إلى تعميق شعور دائم في أروقة المكان ومناشطه وأدوات تعبيراته عن المسؤولية المعنوية حيال الثقافة الوطنية، بحيث يتحقق الوصل بين العبقرية الثقافية الوطنية أو المنتوج الثقافي الوطني والحياة العامة التي يعيشها أبناء الوطن.

وبهذا لا تكون الثقافة حبيسة مكان، بل تنطلق من مكان إلى أرجاء الوطن وتتسرب إلى كل المواطنين لتشكل غذاء فكريا ـ معنويا، ينعكس على سلوكه العام والخاص.

فالمكان الثقافي وفق هذا المنظور، تلخيص متوهج لثقافات الإنسان وإبداعاته المتعددة.

وهو (المكان) يرصد في لحظة واحدة، هذه الكثافة الإبداعية، فيتواصل رواد المكان، مع إبداعات الشعوب وأفكارهم بعيداً عن هموم عقد النقص أو عقلية المؤامرة والغزو، وبهذا تصبح الثقافة متسربة في نسيج الحياة نفسها، وتتعايش في أسئلتها وتحدياتها مع متطلبات الحاضر والمستقبل أيضاً.

والمؤسسات الثقافية والأدبية وبحكم ما تتميز به من احتراف للعلم والثقافة والأدب فهي تقوم بدور التوالد القيمي المستمر بمعنى إنتاج القيم الحضارية للجماعة الوطنية، وإعادة إنتاجها وفق متطلبات اللحظة التاريخية. كما أن الإحاطة بالسياسة الثقافية، للمؤسسات الثقافية والأدبية الوطنية، تقتضي الاهتمام التاريخي والحضاري للجماعة الوطنية ودورها في المحيطين العربي والإسلامي.

لذا من الأهمية بمكان، بيان فلسفة العمل الثقافي والأدبي الذي تقوم به هذه المؤسسات وأشكال التلاقي الذي تحدثه بين التاريخ والثقافة والمجتمع.

وفي أطار السياسة الثقافية ينبغي الاهتمام بالأدوات الثقافية المعبرة عن السياسة الثقافية لهذه المؤسسات الوطنية. وتعرف السياسة الثقافية بأنها: نسق من الغايات والأهداف التي تعتمد وسائل وأدوات تقرها مجموعة معينة وتقوم على تنفيذ ذلك سلطة ما في ميدان الثقافة.

وهذا يعني أن السياسة الثقافية، لهذه المؤسسات هي تعبير متواصل عن الكثافة التاريخية والرمزية للجماعة الوطنية، وأن المؤسسات الثقافية، ينبغي لها الإحاطة بالعمق الحضاري والتاريخي للوطن حتى يتسنى لها إبداع أساليب وأطر ثقافية ـ اجتماعية تعكس ذلك العمق في الحقبة الراهنة وبهذا تكون الثقافة الوطنية المعاصرة على علاقة مباشرة بالتاريخ الوطني للمجتمع.

وبهذه العملية، تصبح المؤسسات الثقافية والأدبية حلقة وصل حيوية بين العمق الحضاري ومكانه والراهن بآفاقه ومتطلباته على هذا الصعد والمستويات بالسياسة الثقافية لهذه المؤسسات، ليست من وحي النظر المجرد والبعيد عن الواقع بل هي انعكاس لضرورات تاريخية ـ حضارية، ومتطلبات راهنة، يصعب التغافل عنها.

وعلى ضوء هذا، ثمة مهام ضرورية، وعلى صلة مباشرة بالبنية الذاتية لهذه المؤسسات والأطر الثقافية والأدبية وهي:

1) إن مهمة المؤسسات الثقافية والأدبية، هو توسيع أرضية الحوار والتلاقي بين طاقات الوطن الثقافية والفكرية والعمل على بلورة المشروع الثقافي الوطني، الذي يستوعب ثمرات الجهود المختلفة، التي يبذلها أهل الاختصاص في هذا المجال. وإن التصور الأمثل لهذه المؤسسات هو أن تتحول إلى كيان ثقافي شامخ يلبي متطلبات المواطنين الثقافية، ويبلور حاجاتهم وتطلعاتهم في هذا الحقل الهام.

2) الإسهام في تطوير الثقافة الوطنية وهو دور ووظيفة المؤسسات الثقافية الأساسي، توظف له كل الإمكانات، وهو ما يميزها عن المؤسسات الأخرى، لأنها تلامس مناطق الإبداع في ذوات مريديها فتتعهدها وتصقلها وتضفي على المادة، رصانة البحث و هدفيته، فتفي بوعدها لوطنها ومجتمعها وتحقق ذاتها في آن.

وللإسهام هذا صيغ وميادين تتعدد وتتنوع لكنها تتفق جميعاً في كونها إضافة أصيلة متفردة. وبالتالي فإن الحقل الثقافي والأدبي الذي تعني به المؤسسات الثقافية، ليس ملء الذاكرة بل تثقيف العقل وهذا لا يتأتى مصادفة وإنما بعمل هادف ويترجم في وسائل وأدوات ومناهج تنبه في العقل طاقات ومواهب وتوقظ الذات من سباتها السلبي.

وفي هذا الإطار يقوم إصرار المؤسسات الثقافية، على تنمية روح البحث لدى أبنائها ومريديها والمقصود من البحث هو الفحص العلمي المنظم في سبيل التدقيق في فكرة ما أو لاكتشاف معرفة جديدة.

وبالإسهام النوعي في تطوير الثقافة الوطنية، تسجل المؤسسات الثقافية، إخلاصها لمبادئها ووفائها الكامل للقيم والأهداف التي تلتزم بها، وهي إنما تؤكد في ذلك ارتباطها الديناميكي بمحيطها ومجتمعها.

وإذا كان اكتناز المشروع الذاتي، أمراً مطلوبا في البدء فما ذلك إلا مقدمات تسمح لهذه المؤسسات أن تكون اكثر قدرة وفعلا وأثراً. أما أن تكتفي هذه المؤسسات بالجانب الذاتي من مشروعها، فهي تضع نفسها إذ ذلك خارج الناس، وعلى هامش حياتهم وتطلعاتهم فتستحيل في أحسن الأحوال إلى بيت علم وجدل، لا مركز إشعاع ومصدرا للفكر والمعرفة. لكن هذه المؤسسات ليست صومعة تأمل ترقب الحياة من عل، وإنما هي وعي الناس في أكمل صوره الممكنة، تعمق معنى وجودهم وتشدهم نحو الأفق الأرحب.

وفي إطار الحديث عن مؤسساتنا الثقافية والأدبية ووظائفها وأدوارها الوطنية، من المهم الحديث عن الكتاب وموقعه في عملية التطوير الثقافي.

من البداهة القول: أن الفكر هو حصيلة عقل الإنسان، غير أنه لا يعيش لوحده وإنما ضمن الجماعة الإنسانية، لذلك فإن أفكاره تواجه في مقابلها أفكار الآخرين، وهكذا تكتسب قضية النقد موضوعيتها. والفكرة الخالدة المتماسكة، هي التي تخرج بالظفر من اختبار النقد. وبهذا يمثل الفكر والنقد عنصرين مكملين لبعضهما، كما أنهما عاملان في تكامل الحياة الإنسانية. ويمثل الكتاب مرآة حقيقية التي تعكس عقل الإنسان وفكره، كما أنه يوفر الأرضية المناسبة لنقد الفكر. ويعكس في ذات الوقت التراث الإنساني بكل صنوفه وأشكاله الذي دونه الإنسان عبر التاريخ.

وعلى ضوء هذا نستطيع القول: أن الكتاب بهذا المضمون وهذه الآفاق هو الذي يحرر الفكر من قيود الزمان والمكان، ويجعل من الممكن لجميع الأجيال والشرائح أن تتواصل مع إبداعات الفكر والمفكرين، واكتشافات العلم والعلماء، ونتاج الثقافة والمثقفين. والمجتمعات المتقدمة هي التي توفر كل الظروف الملائمة، وتذلل كل العقبات المحتملة أمام الكتاب ومضمونه التنويري والتوعوي. وحركة النشر والتوزيع والترجمة وهي الحركة المرافقة للكتاب في كل مراحله، هي بحاجة أيضا إلى نظام حوافز وطني، حتى يتسنى لها تجاوز كل العراقيل والمعوقات.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن أحد أعظم إنجازات الإسلام في الحقل الحضاري، هو الاحترام العظيم الذي يحضاه الكتاب والكتابة. والحرمة العظمى على حد تعبير المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين التي جعلت للكتاب شيئا من القداسة باعتباره سجلا للمعرفة التي اعتبرت الشريعة الإسلامية طلبها واكتشافها وتدوينها وتعليمها عبادة كبرى تتميز وتمتاز عن العبادة المحضة للعابدين وعلى دم الشهداء.

ولقد اعتبر الإسلام أن ما يحميه ويكشف عن الحق فيه هو المزيد من المعرفة، وليس الجهل وليس المعرفة الناقصة. لقد أغلق الإسلام منافذ الشعوذة ومنافذ الخرافة حينما وقف موقفا سلبيا من السحر وأخوته وأخواته. لكنه دعا الناس جميعا والمسلمين خاصة إلى فتح منافذ المعرفة الموضوعية على مصاريعها والولوج فيها إلى حقول البحث العلمي وكشف خفايا الكون والطبيعة والإنسان باستخدام مناهج البحث الملائمة لكل موضوع في حقله الخاص.

ويحتضن وطننا العزيز اليوم، الكثير من الكتاب والكفاءات الثقافية والأدبية والإبداعية، التي تتطلع إلى إطار ومؤسسة تجمعهم وتطور من مستوى تنسيقهم وتعاونهم، وتعمل وفق خطة وطنية مدعومة من كل الجهات الرسمية والأهلية إلى القيام بأنشطة ثقافية وأدبية كالندوات والمؤتمرات وحلقات البحث والتفكير ومعارض للكتاب ومهرجانات للثقافة وجوائز تقديرية للمواهب والنصوص المتميزة، وتنمي حالة التعاون بين مؤسساتنا وشخصياتنا الثقافية والأدبية والجامعات والمعاهد الأكاديمية. كل هذا في سياق الوصول إلى حياة ثقافية وأدبية وطنية حيوية وفاعلة، وتساهم بجد في تطوير واقعنا وبلورة الآفاق الجديدة لمسيرتنا الوطنية.

وفي إطار العمل على تطوير الواقع الثقافي الوطني بكل مفرداته ووسائطه ومجالاته، ندون المقترحات التالية:

1- إننا كمواطنين نتعاطى الشأن الثقافي والأدبي، نشعر بضرورة تشكيل وزارة للثقافة والبحث العلمي، تأخذ على عاتقها تطوير هذا الحقل الهام، واحتضان الجهات والمؤسسات ذات الاختصاص الثقافي والعلمي، وتعمل على خلق سياسة ثقافية وعلمية وطنية، وتوفر إمكانات تنفيذ هذه السياسة، وتسعى بكل طاقاتها لتحفيز جميع المواطنين لإنجاح هذه السياسة وتقوية مؤسسات البحث العلمي والثقافة والأدب في الوطن. كما تأخذ على عاتقها إيجاد هياكل الإنتاج والتداول في المجال الثقافي، وتقديم الخدمات الثقافية لكل المواطنين في كل أماكن وجودهم، والاهتمام بالمنتوجات الثقافية من كتب وتشكيل ومسرح ومجلات وغير ذلك. وتحويل كل هذه المجالات إلى صناعة متضامنة، متكاملة، قوية، وقادرة على إنتاج ثقافة تمثل مجتمعنا ووطننا بكل أطيافه وشرائحه.

2- في إطار العمل على توسيع دائرة التلقي الثقافي وتشجيع القراءة ودعم الكتاب الوطني، نحن بحاجة إلى إطلاق بعض المشروعات الوطنية التي تأخذ على عاتقها إنجاز التطلعات الآنفة الذكر. كتدعيم حركة النشر والترجمة، وتوسيع فكرة المعارض الدولية للكتاب ودعم إنتاج الكتاب، وتبني مشروع الكتاب الأول والمهتم بتشجيع الشباب على إصدار كتابهم الأول وسلسلة من الكتب والدراسات والأبحاث التي تعنى بشئون الصغار والإبداع والبحث العلمي.

3- لا يمكن تطوير الحقل الثقافي في وطننا بدون مكتبة وطنية كبرى، تستوعب كل الكتب والأبحاث بتنوعها الجهوي والتخصصي. وتحتضن هذه المكتبة أرشيف الوطن التاريخي، وذلك لأنها هي المؤسسة القادرة على الربط بين الماضي والحاضر، كما يطـل منها الوطن على آفاق المستقبل.

4- نحتاج إلى جهود متواصلة لتطوير متاحفنا الوطنية، وجعلها أمكنة يؤمها ويستفيد منها الناس بسهولة.

5- يتوفر وطننا على حركة فنية تشكيلية ناشطة، وهي ذات عمق تاريخي، وأجيالنا اللاحقة بحاجة إلى متحف أو متاحف فنية، ترصد الحركة التشكيلية في وطننا في مختلف مراحل تطورها وأبرز رجالاتها.

6- ضرورة استحداث جوائز تقديرية وتشجيعية للباحثين والمبدعين.

وجماع القول: أن الثقافة الوطنية مطالبة بأن تعبر بمختلف الأساليب عن كل ما يحرر طاقة المواطن، وتطلق أعنة إبداعه، وتحارب بكل قوة التعصب والتزمت والاستلاب وسائر أنواع الانحرافات التي تضر بمسيرة الوحدة الوطنية.

المثقف وصناعة الدور

في هذا العصر الذي تتكاثر فيه التطورات كما تتكاثر التحديات وتتوسع آفاق الفعل ورد الفعل.. في هذا العالم الذي يموج بالتطورات على مختلف الصعد والمستويات.. بحيث أصبح الثقافي متأخراً درجات عديدة، بل مسافة طويلة عن السياسي والتقني. لدرجة أن الإنسان التقني، بدأ يكتسح الساحة ويأخذ مجالات عديدة كانت في فترة زمنية سابقة من قلاع المثقف وساحاته العتيدة.

وإننا في هذا الإطار، وأمام هذه التطورات والتحديات، فإننا نؤكد على جملة من الأمور والقضايا التي ينبغي للمثقف في المجال العربي والإسلامي اليوم أن يعتني بها ويجعلها من إهتماماته الإستراتيجية.

الحقائق الثقافية في المحيط الإجتماعي:

إن من الأعمال ذات الطابع الإستراتيجي، الذي ينبغي أن يهتم بها المثقف ويعتبرها من أولويات أعماله ونشاطه، هو العمل على تأسيس حقائق ثقافية في المحيط الإجتماعي، لأن تأسيس هذه الحقائق، هو الذي يجعل للمثقف دوراً حقيقياً، ويمتلك تأثيرا فعليا في الوسط الإجتماعي.

والمقصود بالحقائق الثقافية، هو السعي الجاد لتحويل مجموعة من الأفكار والقناعات الثقافية، إلى مؤسسات ونويات اجتماعية تمارس دورها باعتبارها خلايا اجتماعية، تهتم بالشأن الثقافي وتسعى نحو تطويره وتجذيره في الحركة الاجتماعية.

والجدير ذكره في هذا المجال هو: أنه بدون تأسيس هذه الحقائق الثقافية، سيبقى المحيط الثقافي طارداً الكفاءات الثقافية، أو غـير مستوعب بشكل سليم لها.. مما يدفع المثقف إلى العزلة والانفصال الفعلي عن المحيط الإجتماعي. ولعل هذا هو الذي يفسر ظاهرة هجرة الأدمغة المفكرة من العالم الثالث عموماً.. لأن هذا المثقف في العالم الثالث، وغالبا لظروف موضوعية لا يستند في محيطه الإجتماعي، على حقائق ثقافية ثابتة، وتعتبر جزءاً من المنظومة الاجتماعية العامة.

فالمثقف لا يمكنه أن يعيش في محيط اجتماعي، لا يعلي من شأن الثقافة وحاملها ومنتجها.. لهذا فإن العمل الحقيقي الذي لا بد أن يقوم به المثقف، ليس الهروب من المحيط الإجتماعي والانعزال عنه، وإنما السعي الجاد لتأسيس الحقائق الثقافية التي تمارس دوراً تنويرياً في المحيط الإجتماعي.

فرجل الاقتصاد والمال، لم يمتلك تأثيره في المحيط الإجتماعي، من وجود الثروة وحدها لديه.. وإنما امتلك التأثير، حينما حوّل إمكاناته المادية إلى مجموعة من الحقائق الاقتصادية والتجارية في المحيط الإجتماعي.. وبالتالي مارس رجل الاقتصاد والثروة دوره وتأثيره في المجتمع عن طريق هذه الحقائق.. فينبغي ألا يكتفي المثقف بنتاجه النظري، وإنما من الضروري أن يسند هذه الأنشطة، بحقائق ثقافية تعطي لهذه الأنشطة بُعد الديمومة والاستمرار. ففاعلية القول المجرد في التأثير ضعيفة، واكتفاء المثقف بذلك يجعله في الكثير من الأحيان خارج الحراك الإجتماعي.

أما العمل الجاد من أجل تكريس حقائق ثقافية في المحيط الإجتماعي، فهو الذي يجعل المثقف كفرد ونخبة، من الأعمدة الأساسية لعملية الحراك الإجتماعي المتجهة إلى التطوير والتقدم.

المثقف ومشروع الأمة:

إن رسالة المثقف الحضارية، تتجسد في العمل على بلورة المشروع الثقافي للامة، الذي يجعلها تتواصل مع تاريخها المجيد دون الغيبوبة فيه. ويبلور لها النظام الثقافي الفاعل في حاضرها، والمتناغم مع متطلبات عصرها والمجيب على تساؤلاته وتحدياته.

من هنا من الضروري أن يخرج المثقف عن أناه و مصالحها الضيقة، ويفكر بمستوى الأمة وتطلعاتها.. فالمثقف لا يقاس بحجم المعلومات المتوفرة في ذهنه، أو الأوسمة المعلقة على صدره، وإنما يقاس بمدى مساهمته الجادة في مشروع الأمة الحضاري، وبمستوى التزامه بتطلعاتها وهمومها.. وينبغي التذكير بأن التاريخ لم يخلد أولئك النفر من المثقفين الذين تخلوا عن الأمة وتطلعاتها، وإنما خلد أولئك النفر، الذين وظفوا إمكاناتهم المعرفية والثقافية في سبيل إعلاء شأن الأمة معرفياً وحضارياً.. وهذا بطبيعة الحال يفرض على المثقفين قاطبة، أن يعيدوا التفكير في النظام الثقافي السائد وتوجيه الطاقات والإمكانات من أجل إعادة النظر في السائد لإصلاحه وتطويره بما ينسجم ومشروع الأمة الحضاري.

وعلى ضوء هـــذه المهمة التاريخية للمثقف، ينبغي أن يصقل مواهبه ويبلور طاقاته حتى يكون عنصراً فعالاً في تحقيق هذه المهمة التاريخية. وعلى هذا فإن قيمة المثقف تتحدد بما ينتجه نظــرياً، أو يقوم به عملياً وإذا كان في إطار خدمة الأمة ثقافياً وحضارياً.

أما إذا خرج المثقف في إنتاجه النظري أو نشاطه العملي عن الأمة ومتطلباتها.. فإنه يفقد دوره الطبيعي في وسط الأمة ولا يحظى بالتقدير اللائق به من قبل جمهور الأمة.. وهذا بالطبع لا يعني أن يتحول المثقف إلى مسوغ ثقافي إلى سائد الأمة من العادات والتقاليد والأفكار.. وإنما يعني ضرورة أن يشعر المثقف بمسئوليته العلمية والحضارية تجاه مجتمعه وأمته.

وأن هذا الشعور بالمسئولية هو الذي يجعل المثقف، يبحث عن أطر وأوعية يقوم المثقف من خلالها بتجسيد مفهوم المسئولية تجاه المجتمع والأمة.

وعلى هذا فإن كلمتنا الأخيرة إلى المثقفين هي: العمل على تمتين العلائق والروابط مع الأمة حتى يتحول المثقفون إلى جسر عملي، ينقل المجتمع إلى رحاب التقدم وآفاق العلم والمعرفة.

فالمثقف في الفضاء المعرفي الغـــربي كان له الدور الكبير والفعال، في نشر أفكار التنوير ومفاهيمه، ونقل المجتمعات الأوروبية من واقع القرون الوسطى المليء بالجهل والخرافة ونبذ العلم والمعرفة، إلى واقع المجتمعات الصناعية التي تقدس العقل وتعلي من شأن العلم وترحب بالإبداع الإنساني.

فالمثقف حينما يتحمل مسئوليته التاريخية، يضحى قدرة خلاقة يرفد مجتمعه بالكثير من الأفكار الحضارية ويعـــمل وينشط ثقافياً واجتماعياً، من أجل الوصول إلى النموذج الحضاري الأمثل للمجتمع.

فتحديات المستقبل لا يمكـن أن تواجه بفعالية، إلا بمزيد من الحضور النوعي للمثقف في مسيرة الأمة، ومشاركته الإيجابية في قضاياه واهتماماته الكبرى.

وإن وطننا العزيز فيه العديد من الأصوات والتوجهات الثقافية والفكرية والإبداعية، التي تحتاج إلى فتح المجال أمامها للمشاركة في بناء الوطن وتطوير خطط التنمية في بعدها الثقافي والحضاري. وهذا بطبيعة الحال يتطلب من هذه النخبة الوطنية الانفتاح على الآراء والأصوات والقناعات المتوفرة في فضاء الوطن. لأنه بدون الحوار والانفتاح والإنصات الدائم إلى كل الآراء والوجودات، لا يمكن الوصول إلى صيغة ثقافية حيوية. لهذا نجد أن المجتمعات التي استطاعت أن تواجه تحدياتها الداخلية والخارجية، هي التي تمكنت من التواصل الحيوي مع روافدها الثقافية الذاتية. ويقول في هذا الصدد (أمادو مهتارمباو): اكتشفت الشعوب الأفريقية حضارتها الخاصة المتأصلة فيها عندما رفضت التفوق الغربي. ويبدو الرجوع بهذا الصدد إلى مناهل الثقافة القومية، وكأنه أول خطوة نحو تحرير خلاق، إلا أنه هذا الرجوع يفقد مضمونه إذا لم يؤد إلى حياة ثقافية حقة، وكان بالتالي نتيجة نظرة بالية للثقافة.

ومهمة المثقف دائما، هي صناعة الأفكار، التي تجعل المجتمع دائما في حركة متواصلة وفعالية مستمرة في سبيل البناء والتقدم. وبالتالي فإن ملاحقة المتغيرات ومتابعة التحولات الاجتماعية والسياسية والحضارية وقراءتها بعمق وموضوعية، تصبح من صميم عمل المثقف الوطني، لأنه لا يمكن صناعة المفاهيم والأفكار المحركة للمجتمع صوب التطور والتقدم، بدون التفاعل مع حركة المجتمع والمساهمة في صناعة تحولاته ومتغيراته. فالوظيفة الأساسية للمثقف، تعتمد اعتمادا كبيرا على قدرته على معرفة شئون مجتمعه، ومتابعة أحواله، والتواصل العميق مع قضاياه وهمومه.

.............................................
الهوامش
1- أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي: وقائع ندوة الكويت ما بين 7/12 نيسان 1974م ـ جامعة الكويت 1975م.
2- القرآن الحكيم ـ سورة الملك ـ آية (22).
3- القرآن الحكيم ـ سورة الزمر ـ آية (18).
4- التنوع البشري الخلاق ـ تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية ـ الطبعة العربية ـ ص 109ـ المشروع القومي للترجمة (27) إشراف وتقديم جابر عصفور.
5- أوراق الحوار ـ المؤتمر الدائم للحوار اللبناني ـ العدد السادس.

اضف تعليق