q
التشدد في تشريع هذه قوانين بصورة تقمع من الحريات الفكرية قد يشرعن القمع الرسمي وغير الرسمي ويكون ذريعة للإقصاء الشخصي والسياسي وحتى العشائري في مرحلة يغيب عنها التطبيق الحقيقي والمهني للقوانين وتسيطر عليها المصالح والعلاقات والنفوذ وقوة السلاح، وعليه فإن ضمانة حرية الفكر كانت ولا تزال مطلبا...

أعاد مجلس النواب العراقي في دورته الحالية الجدل مرة أخرى بعد طرحه لمسودة قانون جرائم المعلوماتية للنقاش من جديد، بغية التصويت عليه وإقراره ليحد ما يعدونه بالجرائم المعلوماتية، وأمام هذه العبارة الفضفاضة، أثيرت موجات من الهواجس وردود فعل رفضت بالمرة هذه المسودة وصلت إلى التظاهر والتجمهر الشعبي لما تمثله من نهج لقمع حرية الفكر والرأي والتعبير والنقد.

إذ مرت هذه الحريات بحالات قمع شملت مختلف المجالات والشرائح والمكونات، خاصة إذا كان هذا الفكر يحمل في طياته نقد للسلطات التي توالت على حكم العراق ومنه حكم حزب البعث السابق النموذج الأسوأ إلى الآن في القمع واضطهاد الفكر، وبالمقارنة ما بين إتاحة الحريات الفكرية وقمعها كانت الكفة المسيطرة سلوك القمع الذي مارس مختلف أشكال القمع ووصلت إلى مرحلة الزج للسنوات في السجون والإعدام.

شمل سلوك القمع كل الطوائف والشرائح لاسيما الناقد والمعارض والمثقف منها، بدأت حرية الفكر بالمضايقات بدءا من صعود المد القومي في العراق ثم تصاعد القمع مع تجربة حزب البعث ومن ثم صعود الأحزاب والحركات الإسلامية خاصة الأصولية والجهادية منها، وشمل هذا القمع في حقبة حكم حزب البعث التعددية السياسية، والصحافة والإعلام، وحرية النشر والتعبير والتأليف.

وقد نستذكر هنا قمع الآلاف وتهجيرهم لأسباب تخص حرية الفكر والتعبير، والشعائر الدينية والطقوس الحسينية، والنظام آنذاك شأنه شأن أي نظام استبدادي يرى في الحريات وقراءة الفكر والحريات والمعرفة بشؤون الحكم والإطلاع على التاريخ والقانون يمثل أكبر تهديد لوجوده لذا فهو -أي النظام- عن طريق أدواته البوليسية والمخابراتية والحزبية كانت سمة القمع من أهم ما تميز به.

من هنا وصف النظام البعثي السابق بالنظام الدكتاتوري المستبد، وقد كان نهجه اتجاه حريات الفكر والتعبير إحدى أسباب سقوط وتأليب الرأي العام الداخلي والدولي ضده في عام 2003 وقد تأمل العراقيون بأن يكون بلدهم بأن تتحول هذه الحقب المأساوية اتجاه الحريات الفكرية والدينية لاسيما وأن النظام الجديد أراد أن يؤسس على الدستور والتداول السلمي للسلطة والديمقراطية والحريات المدنية والفكرية والدينية، وقد فسح النظام المؤسس حديثا في نشأته السياسية الجديدة وبعوامله الاجتماعية والقانونية والدستورية الحريات وأبرزها الحرية في التعددية السياسية والحزبية وحرية إبداء الرأي والنشر والتعبير وممارسة الطقوس الدينية والحسينية وحرية التظاهر، ومع التطور المتزايد في وسائط السوشيال ميديا كالفيس بوك، وتويتر، والواتساب، واليوتيوب وغيرهم، فضلا عن الإعلام المرئي والمسموع والذي يقدر بعشرات القنوات الفضائية والقسم الأغلب منها حزبية، واستعمال هذه الوسائل في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والشخصية.

والكل يعلم مدى التأثير الذي تتركه في المتلقين والمتابعين خاصة في تزايد السخط اتجاه النظام والعملية السياسية وعموم الطبقة السياسية المتنفذة في العراق، ربما قد يشكل ذلك عنصرا أساسيا في لجوء الكتل الممثلة في مجلس النواب والأحزاب التقليدية إلى الشروع بإقرار قانون يحد من ذلك، بدعاوي مبررة عندهم كتلك التي ترى أن هذه الوسائل وغيرها أصبحت منطلقا للترويج للأحزاب المحظورة كحزب البعث المنحل والتنظيمات الإرهابية أو مكانا لترويج المحظورات الاجتماعية كالمخدرات وبيع السلاح وظواهر سلبية مشابهة، إلى جانب ما يعد حالات التسقيط التي يتعرض لها بعض الأشخاص فهم يرون ممكن من خلال هذا القانون أن يضربوا عصفورين بحجر واحد وقد لا يهم المتصدين من كتل وأحزاب وحتى وزراء وبرلمانيين سابقين وحاليين الظواهر السلبية الناجمة عن الاستعمال السيئ لوسائط التواصل الاجتماعي بقدر ما يرتجون أن يوفر لهم القانون حماية في مقاضاة وتهديد المعارضين والناقدين والناشطين والمراقبين ومن يتأثر بهم على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال مواد القانون المفترض.

ومما تقدم، نقول استنتاجا لأهمية إباحة حرية الفكر كحاجة فطرية وقانونية وسياسية، وتداعيات ممارسة الضغوط التي قد تكون سببا في قمعها أو مراقبتها، أن البلد يحسب أنه شهد مرحلة جديدة في انطلاق الحريات الفكرية والسياسية والدينية المكفولة دستوريا، وأن النظام قائم على أسس ديمقراطية ومن المعروف أن إحدى دعائم الديمقراطية وجود فسحة كاملة للحريات الفكرية والسياسية والدينية وضمانة الحريات الشخصية.

ومن المهم أيضا في هذه الخلاصة أن نذكر بأن الدستور العراقي أكد على التمسك بمعاني الحرية وألزم الدولة بكفالة ممارسة الأفراد لهذه الحرية، ومنه المادة (15) منه أكدت على حق الفرد في الحرية، وفي المادة (16) ذكر بأن لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين، وحماية لتلك الحرية أكد الدستور على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وحظر الحجز مطلقا باعتباره نوعا من أنواع القهر والتقييد والحرمان غير القانوني، ويتناقض مع حرية الإنسان وكرامته التي يفترض أنها مكفولة ومصانة من قبل الدولة، وقد نصت المادة (38) من الدستور على كفالة الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب على حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، كما نصت المادة (42) من الدستور أيضا على أن لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة.

وأخيرا من المهم الإشارة إلى أن التشدد في تشريع هذه قوانين بصورة تقمع من الحريات الفكرية قد يشرعن القمع الرسمي وغير الرسمي ويكون ذريعة للإقصاء الشخصي والسياسي وحتى العشائري في مرحلة يغيب عنها التطبيق الحقيقي والمهني للقوانين وتسيطر عليها المصالح والعلاقات والنفوذ وقوة السلاح، وعليه فإن ضمانة حرية الفكر كانت ولا تزال مطلبا أساسيا وحاجة لا يمكن التخلي عن أي شكل من أشكالها ومن أجلها دفعت الغالي والثمين، وأنها السبيل إلى تحقيق العدالة وتقويم الانحراف الذي يطرأ في المجتمع والنظام السياسي والدولة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2020Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق