q
نعم الشهادات العلمية مهمة لكن المهارات أهم بكثير، هكذا بدأت الشركات تنسج لنا يوميا هذه الثقافة التي تبدو واقعية في أسواق العمل، في ظل الطبيعة المتغيرة للعمل، فلا يكاد يمر يوم الا ونقرأ خبر إلغاء كبرى شركات التكنولوجيا العالمية لشرط وجود شهادة جامعية عند تعيين موظفيها...

نعم الشهادات العلمية مهمة لكن المهارات أهم بكثير، هكذا بدأت الشركات تنسج لنا يوميا هذه الثقافة التي تبدو واقعية في أسواق العمل، في ظل الطبيعة المتغيرة للعمل، فلا يكاد يمر يوم الا ونقرأ خبر إلغاء كبرى شركات التكنولوجيا العالمية لشرط وجود شهادة جامعية عند تعيين موظفيها، والسبب كما ترى يرجع كون المهارات أهم من الشهادات، بل انها تصر على اعتماد سلّم أجورها على مهارات المرشحين، وليس الدرجات العلمية.

ما الذي اثار هذه الشركات لأن تعلن ثورتها ضد الشهادات، لولا التقدم التكنولوجي الذي غير نمط الحياة الاجتماعية التي اثرت تلقائيًا على جوانب الحياة الأخرى، وأهمها الاقتصادية التي تتحكم وتغير من السياسات والتوجهات القائمة في هذا العالم، والمتوجه حاليًّا إلى تخصصات فنية وتسويقية وبرمجية لم تكن معروفة من قبل إرضاء لمتطلباتها وشروطها، خاصة ان الأبواب أصبحت مفتوحة أمام الأجيال الناشئة نحو عالم المعلومات والدراسات والأبحاث من خلال مواقع التعليم الذاتي والإلكتروني، لذلك لم تعد الشهادة الجامعية علامة امتياز.

واعتقد ان من يقرأ أفكار مقالتي في مجتمعاتنا، سيصاب بهستيرية من الضحك، لأننا اعتدنا النظر الى الجامعة على أنها المرحلة الأساسية لإثبات ذكاء الفرد وقدرته على النجاح في سوق العمل، مثلما هي الضمانة لتعزيز فكرة الحصول على العمل، وتوفير الضمان الاجتماعي والمادي للفرد، ولكن مع التقلبات الاقتصادية والقفزات النوعية في عالم التكنولوجيا، لم يعد مقياس النجاح واحدًا، لا سيما أن أشخاصًا مثل بيل غيتس وستيف جوبز ومارك زوكربيرغ لم يتخرجوا من الجامعة ومع ذلك حققوا نجاحًا لا مثيل له في عالم الأعمال والمال. لنعترف من البداية ان هناك ثقافة مجتمعية تقف حائلا امام تنفيذ فكرة المهارات على حساب الشهادات، فلا يزال العيب والوجاهة يتحكمان في ثقافة العائلة والشباب بخصوص قضية التعليم والتدريب المهني لا التقني، على الرغم من مردوده المالي الكبير.

كما ان أسواق مجتمعاتنا مازالت روتينية، غير مبتكرة، تتجه الى تشجيع الشهادة، رغم نمطيتها، وعدم استيعاب الجامعات العربية للعصر، واعتمادها على البرامج التقليدية ذات التوجه التلقيني. لذلك نجد أن هناك فرقاً جوهرياً بين بيئة العمل بين البلدان المتطورة والنامية، فالمُعلِّم في الدنمارك قد يحتاج إلى مجموعة من المهارات تختلف كثيراً عما يحتاج إليه المُعلِّم في بلداننا، حتى وإن كان المسمَّى الوظيفي واحداً، في حين قد يحتاج المُعلِّمون في البلدان المتقدمة إلى امتلاك مهارات رقمية أو تعلُّم لغات أجنبية، فإن هذه السمات ربما لا تكون ضرورية لكي تصبح معلِّما فاعلا في باقي بلدان العالم.

بمعنى ان من لا يمتلك اليوم لغة العصر التقنية والتي تعتمد أساسا على الحاسوب والبرمجيات والالكترونيات وغيرها، وتتطلب أيضا مهارات أخرى ناعمة مثل الحاسوب واللغة الانكليزية ومهارات التفكير الإبداعي والاتصال والتواصل والحوار والإبداع والقيادة وغيرها الكثير، لا يمكنه السباحة في أسواق المهارات الجديدة. عندما نتحدث عن أسواق العمل العربية، ونقارنها بدبي، على سبيل المثال، فأننا نجد فوارق كبيرة في التوجهات والاهداف، فالأسواق العربية معظمها مازالت تفتقر الى ثقافة الشركة العصرية، مع انخفاض في توطين التقنيات والتكنولوجية الرقمية، وكذلك الحال في مؤسساتها الحكومية والخاصة، مما جعلها تعتمد بشكل رئيسي على الشهادات في الاختيار والتقييم الوظيفي، بينما تبدو تجربة دبي مختلفة عن المدن العربية، ومقتربة من الدول المتقدمة في حركة السوق والتوظيف والرؤية الاقتصادية، فالشركات الأجنبية لا تهتم دائما بالشهادات، وانما تركز على المهارات والابتكارات، مما يجعل أصحاب الشهادات العليا اقل حظوظا في العمل بهذه الشركات، مقارنة بأصحاب المهارات والابتكارات.

اعرف أبا قضى نصف عمره بالدراسة حتى وصل الى الدكتوراه ليصبح أستاذا جامعيا، وابنا دخل الى عالم الاتصالات بشهادة بكالوريوس حديثا، لكنه يمتلك موهبة ومهارات مهنية اضافية، المفارقة ان الابن يأخذ راتبا يفوق راتب الاب بثلاثة اضعاف !،واعرف ايضا اباء من رجال المال والاعمال لا يشجعون أبناءهم على الدكتوراه، وانما على شهادات مهنية وتقنية متعددة التخصصات، لكنها قريبة من أسواق العمل وحاجاته.

والسبب يكمن ان سوق العمل الجديد يشترط بعض الميزات غير التخصصية ومن أهمها ما يسمى (المهارات الناعمة) التي يحتاج الفرد إلى 85 بالمئة منها ليتمكن من الاندماج في سوق العمل وإثبات تفوقه بجدارة، ويندرج تحت هذا الجزء مهارة التواصل والتفاوض والتأقلم والمرونة والتنظيم والتعاون والتفكير الناقد وإدارة الأزمات والرغبة في التعلم.

مشكلة العرب اليوم، وجود جامعات كثيرة بلا ابتكار ومهارات، وتعليم معكوس قاعدته حملة شهادات البكالوريوس والشهادات العليا، وآخر القاعدة هو التعليم التقني، ومجتمع مهووس بالشهادة العليا على حساب المهارة والابتكار، ومتخم بالوجاهة الاجتماعية وهذا يحتاج الى تغيير ثقافتنا المجتمعية، وبيئتنا التعليمية صوب التعليم المهني والتقني، واكتساب مهارات اللغات الاجنبية، لا ان تبقى الشهادات حبيسة الأدراج أو مُعلّقة على جدران البيوت، وحامليها يتسكعون في المقاهي والشوارع والحارات بلا عمل!

كلامي صريح ومختصر، انني لا ادعوا الشباب الى عدم الذهاب إلى الجامعة، فهي تتيح لهم إتقان الأساسيات اللازمة للعديد من الوظائف، لكن من المهم أن ندرك أن شهاداتهم ليست دليلًا على قدراتهم، خاصةً في العصر الذي أصبح فيه الابتكار مسعى الجميع، لكننا بالمقابل ايضا علينا ان نعترف بحتمية المستقبل الرقمي قبل ان تغرق الأجيال العربية بالمزيد في وحل التخلف والبطالة والروتين الوظيفي، وهو ما تسعى له دول خبيثة ان تجعلنا في آخر الأوطان، ندور في حلقات مفرغة، نستعير فيها ثقافة حروب داحس والغبراء، ونتخاصم على الوان طوائفنا وقومياتنا، ونتنابز بأحداث التاريخ والقبائل، وتثوير معارك الجغرافيا والأرض، وتشجعينا على اجترار مناهج تعليمية فائضة عن حاجة الحاضر في قنوات متهالكة للصرف العلمي، لتتركنا أخيرا نناقش أزمات تعليمنا واقتصادنا بمنطق نوادر جحا.

..........................................................................................................
* الآراء الوردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق