q
كان قطار ترامب يسير بسرعة قصوى نحو الفوز بولاية ثانية؛ إلا أن قيام أزمة كورونا عثر هذه السرعة، وبددت ما حققه من انجازات قبلها، إذ إنه لم يفلح في خطابه وتعامله مع هذه الأزمة. فقد ظهر بمظهر المستهين بالفايروس، وركز خطابه على الجوانب الاقتصادية فقط...

يعيش العالم أجمع على وقع حدث الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وما يمكن أن تفصحه نتائجها النهائية، فهنالك من يصطف إلى جانب ترامب، وبالمقابل هنالك من يقف بصف بايدن، ولكل فريق مبررته التي دعته للاصطفاف إلى جانب إحدى الشخصيتين. وبما أن بايدن هو الفائز بحسب وسائل الإعلام الأمريكية، الأمر الذي لم يعترف به الرئيس ترامب حتى الآن، إذ يرى أن العملية الانتخابية شابها الكثير من الخروقات، التي ينبغي إعادة النظر بها.

وحتى حين فض هذا الاشتباك، سأركز في مقالي هذا على بعض القضايا المهمة ذات الصلة وهي:

أولًا: الأولويات الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط

على ذكر حمى الانتخابات الأمريكية، وتوقعات انعكاساتها على منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي أود قول الآتي:

في آخر ثلاثة عقود حكم الولايات المتحدة الأمريكية خمسة رؤساء، ثلاثة منهم جمهوريون، وإثنان ديمقراطيان، وسواءٌ أكان الرئيس جمهوريًا أم ديمقراطيًا، لن تختلف أولويات الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط أبرزها: أمن إسرائيل بالدرجة الأساس، وضمان أمن الطاقة وممراتها البحرية، والوقوف ضد محاولات السيطرة عليها من قبل القوى الأخرى الدولية أو الإقليمية، عبر تبني استراتيجيات لتوازن القوى تحفظ وجودها وهيمنتها عليها، والاختلاف يكون في الأساليب فقط ربما تكون صلبة أو ناعمة أو ذكية، والموقف هو من يملي على الرئيس إتباع الأسلوب المناسب له.

ولمن لا يعلم إن مبدأ كارتر نسبة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر هو رئيس ديمقراطي، أوضح مبدأ بين موقف الاستراتيجية الأمريكية من منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط عمومًا، ويعني باختصار "الوقوف بحزم وقوة ضد المحاولات التي قد تهدد المصالح الأمريكية الحيوية فيها".

وبشأن العراق فوضعه من سيء إلى أسوأ بغض النظر عمن موجود على رأس الهرم في البيت الأبيض.

ثانيًا: أين أخطأ ترامب؟

كان قطار ترامب يسير بسرعة قصوى نحو الفوز بولاية ثانية؛ إلا أن قيام أزمة كورونا عثر هذه السرعة، وبددت ما حققه من انجازات قبلها، إذ إنه لم يفلح في خطابه وتعامله مع هذه الأزمة.

فقد ظهر بمظهر المستهين بالفايروس، وركز خطابه على الجوانب الاقتصادية فقط، وتأثير الإغلاق على البلاد، وكلامه صحيح اقتصاديًا. فضلًا عن عد فايروس كورونا مؤامرةً صينيةً ضد بلاده، ودائمًا ما يصفه بـ "الفايروس الصيني".

وتناسى فكرة البعد الإنساني في الخطاب ولو بصورة برغماتية، فالناس أوقات الأزمات، تحب أن تسمع كلام يهدأ من روعهم، ويبين لهم اهتمام الرئيس بأرواحهم لا أن يستهين بها، لا سيما مع وفاة الآلاف وإصابة الملايين من الأمريكيين بكورونا.

فالجانب الأخلاقي مهم في الخطاب السياسي. وهذا ما استثمره ضده منافسه بايدن ليزيد من رصيده الانتخابي. ويرى توين فان دايك إن التواصل والخطاب، ينجزان الكثير من العمل السياسي، والمشاركة السياسية(١). وترامب بخطابه عرقل عمل خططه السياسية وغير السياسية. ويقدم توين بعض الاستراتيجيات الخطابية كـ (استراتيجية تقديم النفس إيجابيًا، واستراتيجية تقديم الآخرين سلبًا، واستراتيجية لعبة الأرقام، واستراتيجية الضرورة)(٢).

وفي ذات الشأن، لماذا اليهود في أمريكا لم يصوتوا لصالح ترامب؟، على الرغم من كل ما قدمه لإسرائيل، إذ فاز بايدن في ولاية نيويورك التي تضم الغالبية منهم؟.

الجواب، إن اليهود الأمريكان ينظرون إلى أنفسهم كمواطنين أمريكيين، أكثر مما هم يهود تربطهم أواصر دينية أو مصلحية مع إسرائيل، ومن ثم فإن حماية أمن وتفوق إسرائيل يقع في صلب المصلحة القومية الأمريكية العليا، ولن يختلف هذا الحال بتبدل الرئيس، وما إذا كان جمهوريًا أو ديمقراطيًا، لذلك لا يعد شأنًا يمكن أن يقلقهم، فإسرائيل آمنة ولم يعد للعرب القدرة على المواجهة فهم باتوا يسيرون على مبدأ المسيح "من يصفعك على خدك اليمين أدر له خدك الأيسر"، ولا اليهود في أمريكا يريدوا أن يهاجروا إلى أرض الميعاد، فميعادهم الولايات المتحدة الأمريكية.

وبالتأكيد هذا الكلام لا ينكر وجود لوبيات يهودية قوية ضاغطة على صانع القرار الأمريكي. ومن ثم فإن مساندة ترامب لإسرائيل فيما يتعلق بشأن تسريع عملية التطبيع مع الدول العربية، والاعتراف بالقدس عاصمة لها، والتنازل عن دور بلاده باعتبارها الوسيط الموثوق بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تعود إلى النقطة المثارة أعلاه بشأن ضمان أمن وتفوق إسرائيل.

وعليه، فإن اليهود في أمريكا يتأثرون بأوضاع الداخل الأمريكي وما يحمله الرئيس من أجندات داخلية تتعلق بالاقتصاد والعمل والسياسات الأخرى، أكثر من الجانب الخارجي المتعلق بالشأن الإسرائيلي.

وفي السياق ذاته، يعتقد معظم العرب والمسلمين، أن إسرائيل وما تسمى بـ "الماسونية العالمية"، هي من تقرر شأن الولايات المتحدة الأمريكية وتسير سياساتها، وتختار الرئيس.

وما هذا الاعتقاد إلا هراء وخزعبلات. فأمريكا قوة عظمى ليست بحاجة إلى إسرائيل، وقوتها هذه تحققت حتى قبل أن تصبح الدولة الإسرائيلية واقعًا موجودًا.

الأصح هو أن الإسرائيليين هم بحاجة قصوى إلى القوة الأمريكية الإمبراطورية لحمايتهم، وهذه القوة تعتمد على إسرائيل في المنطقة لتثبيت نفوذها، ومصالحها، وتكون حجة واقعية لتدخلهم المستمر في المنطقة.

ثالثًا: ترامب الظاهرة

ترامب لا يمثل نفسه، هو ظاهرة تعبر عن ملايين الأمريكيين الساخطين على المؤسسة الأمريكية كالفقراء، والمهمشين، والعمال، والبيض البروتستانت الكارهين للسود والمهاجرين واللاتين.

ترامب يعبر عن أمريكا أكثر قومية، هو أسس لنهج جديد لبلاده، ضرب فيه حرية التجارة والعولمة والتعاون الخارجي عرض الحائط.

لذلك لن ينتهي أثره برحيله، وهذا ما يؤكده الـ (٧٠) مليون أمريكي الذين انتخبوه.

وختامًا أعتقد من الضروري التريث بالكتابة عن خطط الرئيس الجديد بايدن، فلم يستلم السلطة إلى الآن، بالتالي علينا انتظار ما ستفرزه استراتيجية الأمن القومي التي سيضعها فريقه، وبكل الأحوال دائمًا ما يركز الرؤساء الديمقراطيون على الداخل الأمريكي، حتى أن البرنامج الانتخابي لبايدن ركز على الأوضاع الداخلية، لا سيما ما يتعلق بشأن أزمة كورونا، والاقتصاد، والعنصرية إلخ.

.....................................
المصادر
١- توين فان دايك، الخطاب والسلطة، ترجمة: غيداء العلي، مراجعة: عماد عبد اللطيف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠١٤، ص٢٣٦.
٢- المصدر نفسه، ص ص٤٢١-٤٢٥.

اضف تعليق