q
بناء المواطنة وصياغة العلاقات الداخلية للمجتمع الواحد على أسس المساواة والعدالة. وذلك لأن المواطنة ليست هوية جامدة، وإنما هي حيوية ومفتوحة على جميع الروافد، وتستفيد من كل الاجتهادات والآراء وذلك لإثراء مضمونها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية والإنسانية. فالوحدة الوطنية الصلبة، هي التي تبني مواطنة قوية تتواصل...

في ظل التطورات الكبرى والمتسارعة التي تمر بها المنطقة، تتأكد أهمية تمتين الجبهة الداخلية ورص الصفوف وتقوية أسباب الوحدة الوطنية. إذ أن من الخيارات الحيوية التي نستطيع من خلالها مجابهة التحديات والاستجابة الواعية لها، هو خيار تأكيد وتعميق الوحدة الوطنية.

وإن الخطوة الأولى الضرورية في هذا السياق، هي أن نتجاوز الخطابات الإطلاقية أو الكلانية، التي ترى الوحدة بمنظور شوفيني، ينزع إلى إلغاء التنوعات وإقصاء كل حالات التنوع والاختلاف، ويعتبرهما جميعا من عوائق الوحدة ومضادات التوافق الداخلي. لهذا فإن مفهوم الوحدة بحاجة أن ينفتح ويتواصل مع كل التجارب الوحدوية والتوافقية، التي استطاعت أن تؤسس لذات وطنية قوية، قوامها المزيد من الاحترام الوجودي والمؤسسي لكل التعبيرات الثقافية والمجتمعية ومكونات المجتمع.

وهذا يتطلب بناء المواطنة وصياغة العلاقات الداخلية للمجتمع الواحد على أسس المساواة والعدالة. وذلك لأن المواطنة ليست هوية جامدة، وإنما هي حيوية ومفتوحة على جميع الروافد، وتستفيد من كل الاجتهادات والآراء وذلك لإثراء مضمونها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية والإنسانية.

لذلك فإن الوحدة الوطنية الصلبة، هي التي تبني مواطنة قوية تتواصل مع كل التعبيرات وتنفتح على كل المكونات.

وهذا يتطلب الاعتراف بالآخر وجودا وفكرا، لا للانحباس المتبادل، وإنما لانطلاق فعل تواصلي – حواري، ينمي المشتركات، ويسعى نحو مراكمة مستوى الفهم والاعتراف.

فالمطلوب من أجل بناء مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، هو أن ننفتح على مساحات الاختلاف ونتواصل مع المختلفين، من أجل استنبات مفاهيم وقيم جديدة، تزيد من فرص تقدمنا، وتحررنا من آليات العجز، وتجعلنا نقتحم آفاق جديدة، تحملنا على نسج علاقة جديدة مع مفهوم الوحدة والتوافق الداخلي.

فالوحدة الحقيقية لا يمكن أن تعيش إلا في ظل المواطنة الكاملة. ومن الأهمية أن ندرك أن وحدة مصادر العقيدة والأحكام، لم يلغ الاختلافات بين المسلمين، وذلك لاختلافهم في مناهج النظر والاستنباط. وفي هذا التعدد والتنوع في مناهج النظر إثراء للمسلمين في مختلف الجوانب، ولا ضرر نوعي لهذا التنوع على المستوى النظري أو العملي. ولكن الضير كل الضير، حينما يفضي الاختلاف خلافا وقطيعة وخروجا عن كل مقتضيات الأخوة الدينية والوطنية، وسيادة هوس التعصب الأعمى.

والإنسان الذي يعيش الوحدة، هو الذي يحترم خصوصية صاحبه كما يريد من صاحبه أن يحترم خصوصيته. عندما تكون وحدويا، فإن عليك أن تفتح المجال لتحمي حرية صاحبك بأن يقول ما يشاء، تحميه من كل عواطفك وانفعالاتك، تحميه من كل ذلك وتقاتل في سبيل حريته.

وإننا في هذه اللحظة التاريخية، نهيب بجميع مكونات المجتمع الوطني، إلى ضرورة الانفتاح والتواصل مع بعضهم، وذلك من أجل تمتين الجبهة الداخلية وتعميق خيار التوافق وتجذير أسباب الوئام والالتحام الوطني. فلتتحول كل الجهود والطاقات صوب فريضة الوحدة، وذلك من أجل حمايتها وتطويرها.

ومن الطبيعي القول: إن وحدة المجتمعات والأوطان قبل أن تكون شعاراً هي مشروع متكامل ينبغي أن تتوفر فيه مجموعة من الخصائص والعوامل والمبادئ، التي تساهم في تعزيز هذا الخيار، ومجابهة كل من شأنه تخريب مشروع الوحدة والألفة بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد.

وإن السماح بتصدع هذا المشروع أو ضرب بنيته الأصلية، يعد جرماً خطيراً بحق الأمة والمجتمع حاضراً ومستقبلاً.. لهذا فإن الوحدة الاجتماعية والوطنية وضروراتهما ومتطلباتهما ينبغي أن تتصدر الأولويات والهموم.. وبوصف الوحدة مشروعاً ينبغي تعزيزه وحمايته، هو بحاجة إلى آليات متقنة وأدوات فاعلة وإجراءات تفصيلية متواصلة. كما أنه بحاجة إلى مراجعات فكرية وأيدلوجية، تزيل من الأنظمة المعرفية ما يحول دون تعزيز هذا المشروع.

فاليوم كل بلدان المنطقة مهددة في وحدتها الداخلية والوطنية، حيث تواجه تحديات ومخاطر تستهدف كيانها ووحدتها.. ولا يمكننا أمام هذا الزحف التقسيمي الذي يتغذى من عوامل وروافد عديدة، أن نبقى مكتوفي الأيدي، وإنما نحن بحاجة إلى منظومة مواجهة تمكننا من إحباط هذه المخططات وصيانة وحدتنا الداخلية بالمزيد من التلاحم والانسجام..

فالإرادات السياسية التي تستهدف بشكل أو بآخر التفتيت والتشظي، لا يمكن مواجهتها بالخطب البلاغية والرغبات المفتوحة التي لا تستند إلى إرادة وفعل متواصلين..

إن هذه الإرادات بكل أدواتها وآليات عملها، بحاجة إلى إرادة سياسية داخلية تعقد العزم على الصمود والحماية وتعمل على سد الثغرات وبناء الحياة السياسية والثقافية في هذه المنطقة على أسس جديدة، تنهي عقود الفجوة والانفصال بين السلطة والمجتمع، وتعمل على توفير البيئة المناسبة والحاضنة لمشاركة جميع قوى وتعبيرات المجتمع في الحياة العامة.

وحدها الحياة السياسية الجديدة، التي تتجاوز حالات الاستئثار والاستفراد، هي القادرة على إحباط مخططات التفتيت والتشظي ومواجهة المخاطر والتحديات التي تستهدف وحدتنا واستقرارنا الداخلي.. لهذا كله فإننا نشعر اليوم بأهمية تجديد مشروع الوحدة الداخلية والوطنية في كل بلدان المنطقة، التجديد الذي يحمي المكاسب ويواجه الثغرات. التجديد الذي يقبض على حقيقة الوحدة دون أن يضحي بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية. التجديد الذي يعيد صياغة واقعه الداخلي كوسيلة حضارية لمواجهة كل التحديات والمخاطر..

فالتحولات المتسارعة والتي تجري على أكثر من صعيد ومستوى، تفرض على الجميع أهمية تجديد مشروع وحداتنا الوطنية، التجديد الذي يزيل نقاط القصور ويعالج الثغرات ويفتح المجال القانوني والسياسي والثقافي لكل التعبيرات والمكونات للمشاركة بفعالية في البناء وصيانة المكاسب.. إن الوحدة كما الاستقرار حقائق ووجود يصنعه المجتمع بأفراده وجماعاته وتعبيراته، وكل من هؤلاء بحاجة إلى حماية قانونية وثقافية للقيام بدوره على هذا الصعيد.. وبذلك يعتمد وجود الاستقرار وصلابة الوحدة الداخلية على العلاقات بين الأفراد والتعبيرات المتنوعة التي يتشكل منها المجتمع.

من هنا فإن تجديد المشروع الوطني يقتضي إعادة صياغة العلاقة بين مكونات المجتمع والوطن الواحد على أسس العدالة والمساواة واحترام الخصوصيات الثقافية لكل مكون وتعبير اجتماعي. فالوحدة ليست فرضاً وقهراً بل هي تعبير عميق عن مشاركة الجميع في صنع الحقائق والمنجز الوطني.. وكل الوحدات التي بنيت بالقهر وتغييب إرادة المجتمع بكل تنوعاته، كان مآلها الفشل والتشظي..

لذلك فإن تجديد المشروع الوطني يبدأ بإعادة صياغة الوعي الوطني تجاه ذاته ووحدته.. فالوعي الذي ينبذ التعددية ويحارب التنوع ويتوجس خيفة من الاختلاف، لا يخلق وحدة صلبة في المجتمع الواحد. لأنه وعي يشرع للقهر والتغييب والعمل بعيداً عن إرادة المجتمع وطموحاته وحقائقه.

أما الوعي الذي يتشكل من خلال الحوار والتبادل المعرفي والاحترام المتبادل بين كل المكونات، فإنه قادر على نحت ونسج علاقة جديدة بين مكونات المجتمع والوطن.. هذه العلاقة التي تدفع بجميع التعبيرات للمساهمة الفعالة في بناء الوحدة وصيانة المنجز والمكاسب.

فالوحدة الصلبة والحقيقية هي ناتج مجموع إرادة الجميع وكفاحهم وسعيهم المتواصل لبناء واقعهم ومستقبلهم.. فالوحدة ليست مقولة مفرغة من مضمونها الإنساني والحضاري، بل هي عنوان لتآخي وتكاتف وتفاعل كل التعدديات والتنوعات الموجودة في المجتمع والوطن.. فالوحدة في المجتمع والوطن، لا تبنى بسياسات التغييب والإقصاء والتهميش، بل بإفساح المجال لكل المكونات للمساهمة في الشأن العام..

وسرطان الإرهاب الذي يجتاح المعمورة اليوم، لا يواجه إلا بالمزيد من التلاحم والتآخي والتفاهم بين مختلف المكونات الاجتماعية والثقافية.

فاللحظة الراهنة حساسة وخطيرة، وتتطلب منا جميعاً العمل على إنهاء ثغرات واقعنا وترميم علاقاتنا الداخلية وصولاً إلى مستوى من العلاقات الداخلية القائمة على مبادئ العدالة والاحترام المتبادل..

وعليه فإن تجديد المشروع الوطني في هذه اللحظة التاريخية الهامة، يقتضي الالتزام بالعناصر التالية:

1- تجديد الوعي الوطني بحيث لا يكون المختلف موضوعاً للنبذ والكراهية والعداء، بل هو فضاء للحوار والتفاهم والاحترام.. كما أن العلاقات الداخلية بين مكونات المجتمع، بحاجة أن تقوم على أسس المعرفة المتبادلة التي تقود إلى توسيع المشتركات وضبط الاختلافات في حدود لا تضر بمفهوم الاستقرار والسلم الاجتماعي.. لذلك كله فإن الخطوة الأولى في مشروع التجديد الوطني، هو في تجديد رؤيتنا جميعاً لذواتنا ولمكونات الوطن الثقافية والاجتماعية. بحيث تقودنا هذه الرؤية إلى المزيد من التعارف والتواصل ونسج العلاقات والتعاون على قاعدة التفاهم والاحترام المتبادل..

2- إن الوحدات الداخلية والوطنية في كل دول المنطقة، لا تبنى بسياسات القمع والإقصاء ونهج التغييب وإفناء أو محاصرة الحقائق الثقافية والاجتماعية. بل على العكس من ذلك تماماً.. إذ إن الوحدة لا تبنى إلا بصيانة حقائق التعددية في المجتمع.. ومن يبحث عن الوحدة بعيداً عن مقتضيات احترام التعددية والتنوع الموجود في المجتمع، فإنه لن يحصد إلا المزيد من التفتت والتشظي الكامن والصريح.. لذلك فإن تجديد المشروع الوطني، يقتضي العمل على تعزيز وبناء الوحدة الداخلية لكل مجتمعاتنا على قاعدة احترام التعددية وإفساح المجال القانوني لكل المكونات للتعبير عن ذاتها وثقافتها ومساهمتها في الحياة العامة.

فطريق الوحدة هو تعزيز خيار الحرية والديمقراطية في المجتمع.. ولا يمكن بناء حقائق وحدوية صلبة ومتينة بعيداً عن الحرية وصيانة حقوق الإنسان.. فالتنكيل بحقائق المجتمع العميقة، لا يفضي إلى استقرار ووحدة، بل إلى انهيار في أسس الاستقرار وعوامل الائتلاف والوحدة. من هنا وفي ظل هذه الظروف والتطورات الخطيرة، نتطلع إلى الوحدة والاستقرار، ولا سبيل أمامنا لذلك إلا بإصلاح أوضاعنا وأحوالنا، وإطلاق الحرية لكل مكونات المجتمع لكي تعبر عن ذاتها بحرية وشفافية وتبدأ على هذه القاعدة بإنجاز دورها ووظيفتها في الوحدة والاستقرار..

وهذا بطبيعة الحال يتطلب السعي الجاد نحو تفعيل الجوامع المشتركة بين أبناء الوطن الواحد. وذلك من أجل المزيد من المعرفة المتبادلة، وتوفير المناخ النفسي والثقافي الملائم للحوار والتفاهم.

3- من الطبيعي القول: إن تجديد المشروع الوطني لا يتحقق في الواقع الخارجي دفعة واحدة، وإنما هو بحاجة إلى مدى زمني، حتى يتحول هذا المشروع من القوة إلى الفعل ومن النظرية إلى التطبيق.. إلا أن الشيء المهم والذي نشعر بأهميته وضرورته على هذا الصعيد، هو وجود جدول زمني يحدد نقطة الانطلاق والبداية في مشروع التجديد والتطوير..

فلا يكفي اليوم أن يتم الحديث المجرد عن التجديد والتطوير، وإنما هناك حاجة ماسة إلى تحديد مدى زمني لعملية التجديد والتطوير.. وبدون هذا الجدول الزمني وتحديد نقطة الانطلاق، سيتم التعامل مع شعارات التجديد والتطوير كمحاولة لكسب الوقت وتمييع القضية.

ولا ريب أن تأجيل قضية تجديد المشروع الوطني سيفاقم من المشكلات والتحديات، وسيدخل المجتمع في أتون مرحلة وظروف صعبة وشائكة على مختلف المستويات..

وإن تجديد المشروع الوطني هو قبل كل شيء موقف جديد من المواطن.

موقف يحول دون الاستمرار في تهميشه، فهو قادر على المشاركة في صياغة حاضره وبناء مستقبله، وهو الأنسب للتعبير عن حاجاته وطموحاته، لهذا فإن إعادة الاعتبار للمواطن على مختلف المستويات، هو حجر الزاوية في مشروع تجديد المشروع الوطني..

وعليه وعلى ضوء تطورات المنطقة المتسارعة وأحداثها الخطيرة، نحن بحاجة اليوم في كل دول المنطقة إلى تجديد مشروعنا الوطني وتعزيز وحدتنا الداخلية، من أجل استيعاب تطورات الساحة ومجابهة الأحداث التي تعصف بالمنطقة وتقودها إلى مناطق ومجالات مجهولة.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن قوة الدول وعزتها، تقاس بمدى تمثيلها لمواطنيها. فإذا كانت دولة المواطنين جميعا، فإنها ستمتلك كل أسباب القوة والمنعة والعزة. أما إذا مارست الإقصاء والنبذ لبعض مواطنيها، فإنها بذات القدر ستخسر من قوتها ومنعتها. لذلك فإننا نتطلع أن تكون الدولة في الخليج دولة للجميع، في الحقوق والواجبات، والمسؤوليات والخدمات.

وحده الوطن المنفتح والمتفاعل مع خصوصيات مواطنيه، القادر على تأسيس وحدة وطنية صلبة ومتينة. فالوحدة لا تبنى عبر دحر الخصوصيات وخنق التنوعات، وإنما عبر خلق المناخ السياسي والقانوني لكل الخصوصيات والتنوعات الموجودة في المجتمع الخليجي، لكي تمارس دورها ووظيفتها في بناء وحدة الوطن وتعزيز لحمته الداخلية. فالعلاقة جد عميقة وصميمية بين مفهوم الوحدة وبين احترام الخصوصيات والتنوعات وتهيئة المناخ السياسي والاجتماعي لمشاركتها في البناء والعمران.

اضف تعليق