q
حين نتحدّث اليوم عن صفقة القرن، فإن أحد خلفياتها يمتدّ إلى تقسيم سوريا التاريخية، ولاسيّما بوضع فلسطين تحت الانتداب بإشراف عصبة الأمم التي عملت على إجراء تغييرات ديموغرافية وتشجيع الهجرة اليهودية إليها، وما يزال هذا التواطؤ الدولي مستمرّاً، بإعلان ضم القدس الفلسطينية واعتبارها عاصمة أبدية لـ إسرائيل...

يعتبر مؤتمر سان ريمو، الذي انعقد في 19 أبريل (نيسان) وأنهى أعماله في 24 من الشهر ذاته العام 1920، حدثاً مهماً وخطيراً في تاريخ الأمة العربية، ففيه اجتمع ممثلو الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى في تلك المدينة الإيطالية الجميلة، ليقرّروا بكل استرخاء و"راحة ضمير" تجزئة سوريا التاريخية التي تتوزّع حالياً بين سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، ووضع بنود اتفاقية سايكس - بيكو موضع التنفيذ، والمضي في رسم الخريطة السياسية الجديدة لسوريا المصطنعة.

كان مؤتمر سان ريمو مخرجاً للحركة الصهيونية التي ما كان لها تحقيق مشروعها الاستعماري الاستيطاني الإجلائي لولاه، حيث بدأت معه تدخل حيّز النفاذ فكرة إنشاء "دولة اليهود" التي طرحها ثيودور هيرتزل عرّاب الحركة الصهيونية في العام 1896 وتبنّاها مؤتمر بال (بازل - 1897)، حيث شرع المؤتمر الصهيوني خلال عقدين من الزمان لتهيئة البنية التحتية لهذا المشروع عبر: استعمار الأرض واحتلال السوق واحتكار العمل وتشجيع الهجرة اليهودية ترافقاً مع وعد بلفور الصادر عن وزير خارجية بريطانيا اللورد آرثر بلفور العام 1917 والقاضي بـ "منح اليهود وطناً في فلسطين" كما جاء في رسالته إلى والتر روتشيلد.

وحين تحتفل الحركة الصهيونية بهذه المناسبة بشيء من التبجيل والاعتزاز، فلأنها وضعت الوعود والتمنّيات والآمال "الواقعية" وغير الواقعية في إطار مشروع سياسي دعمته أعلى منظمة دولية وهي " عصبة الأمم"، التي صادقت عملياً على توصيات اتفاقية سايكس - بيكو، وهكذا تم تقسيم "سوريا الكبرى" بإخضاع شرقي الأردن إلى الانتداب البريطاني وكذلك فلسطين وقسمت سوريا إلى جزئين منفصلين تحت الانتداب الفرنسي (لبنان وسوريا الحالية)، ثم أخضعت العراق للانتداب البريطاني.

وكان من نتائج تلك التقسيمات الجفوة والاحتراب بين الكيانات القائمة، والدليل الأكثر سطوعاً هو العلاقات العراقية - السورية التي استمرت في حالة من التباعد والتنافر وعدم الود على أقل تقدير، وللأسف لم تدرك النخب الحاكمة في البلدين طيلة قرن من الزمن أهداف ذلك المخطط بغض النظر عن اختلافات وتبدلات الأنظمة والحكومات، سواء أكانت ملكية أم جمهورية ، مستقلة أم غير مستقلة، محافظة أم تقدمية، حيث ظلّت العلاقات سلبية والكراهية قائمة، حتى إن حزباً واحداً حكم البلدين ويحمل أهدافاً واحدة تدعو للوحدة العربية، لكن علاقاتهما كانت الأكثر سوءًا من كل الفترات التي شهدتها.

وإذا كان تقسيم سوريا الكبرى هو الترجمة العملية الأولى لمؤتمر سان ريمو، فإن الترجمة العملية الثانية هي التعهد بتنفيذ وعد بلفور، وإيكال تنفيذ الأمر إلى بريطانيا دولة الانتداب، على الرغم من رفض سوريا بكيانها التاريخي مقرّرات المؤتمر وإصرارها على استعادة الوحدة، إلّا أن المشروع الاستعماري البريطاني- الفرنسي وبالتعاون مع الحركة الصهيونية تمكّن في نهاية المطاف من فرض حيثياته، يضاف إلى ذلك عدم توازن القوى بين العرب وأعدائهم ، ناهيك عن المؤامرات والدسائس التي قامت بها بريطانيا انطلاقاً من الوعود التي قدّمتها للشريف حسين إبان ثورته العام 1916، ثم تنكّرت لها ، حيث تم تهيئة المستلزمات وتوفير الإمكانات لصالح الصهيونية، وصولاً إلى القرار رقم 181 العام 1947، والذي قسّم فلسطين إلى قسمين، وقد سارعت الحركة الصهيونية لإعلان دولة "إسرائيل" في 15 مايو (أيار) 1948، ليكون الخطوة المركزية الأساسية لاستكمال المشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني الإجلائي.

وحين نتحدّث اليوم عن صفقة القرن، فإن أحد خلفياتها يمتدّ إلى تقسيم سوريا التاريخية، ولاسيّما بوضع فلسطين تحت الانتداب بإشراف عصبة الأمم التي عملت على إجراء تغييرات ديموغرافية وتشجيع الهجرة اليهودية إليها، وما يزال هذا التواطؤ الدولي مستمرّاً، بإعلان ضم القدس الفلسطينية واعتبارها عاصمة أبدية لـ "إسرائيل"، وضمّ الجولان السوري بحجة "الأمر الواقع" وهما محتلّان منذ العام 1967، وتوشك "إسرائيل" وحماتها اليوم على ضم الجزء الأكبر من الضفة الغربية الفلسطينية وغور الأردن وشمال البحر الميت.

وإذا أردنا إخضاع مثل تلك الإجراءات اليوم إلى معايير الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي، فستكون تلك وكل إجراءات الاستيطان "جريمة دولية" ضد الإنسانية وتقترب من جرائم "الإبادة الجماعية" وذلك وفقاً لنظام محكمة روما " المحكمة الجنائية الدولية" 1998 والتي دخلت حيّز التنفيذ العام 2002، تتحمّل سلطات الانتداب والقوى الدولية الكبرى نتائج ما حصل لشعب فلسطين التي تستمر معاناته منذ مؤتمر سان ريمو إلى اليوم.

وآن الأوان للعرب أن يفتحوا هذا الملف ضمن إطار "الدبلوماسية السلمية القانونية والحقوقية"، سواء فيما يتعلق بسان ريمو أم بما أعقبه، مثلما حريّ بهم بذل الجهود العربية والإسلامية والدولية على المستويين الحكومي وغير الحكومي للمطالبة بالاعتذار على غرار ما حصل في المؤتمر الدولي حول العنصرية في ديربن العام 2001، كخطوة أولى، إذ لا بدّ للقوى المتسبّبة من تحمّل مسؤوليتها بحكم موقعها ونفوذها لإعادة الحق إلى نصابه وتعويض الشعب العربي الفلسطيني عمّا عاناه من عذاب وتشريد.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق