q
انفجرت الانتفاضة في وقت دب فيه اليأس في النفوس، وبلغ الخنوع مبلغه في جيل عصرته الحروب وأوهنه الحصار، ولم يكن فيه ذاك الحماس لتحريك الراكد من الواقع مع قساوة مرارته، وظن الآباء ان الأبناء مشغولون بما لا طائل منه، وانهم لم يروا من المستنير شيئا...

مع انه جاء متأخرا، لكن لابأس، وان كنا قد خضنا معاركه مبكرا، وحسمنا الكثير منها، حتى غدونا منارة تهتدي بها الكثير من الشعوب، نعم .. درس متأخر، لكنه بليغ في معانيه، وتعلمنا منه ما عجزت عنه المدارس، لذلك سيبقى درس الشباب عالقا في الذاكرة ما حيينا كما علق في أذهان الأجيال ما أقدم عليه شاعرنا الكبير الزهاوي وهو يقارع المتخلف من تقاليدنا وأعرافنا، فمضمون ثورة تشرين لا يقف عند تذمر شباب متطلع من طبقة فاسدة انتجت خرابا، بقدر ما هو صراع بين المعتم والمستنير من القيم، وهذا سر قوة هذا الدرس وتواصله على مدى أشهر بالرغم من أنهار الدم التي سالت في ساحاته.

انه صراع بين المهووسين بالماضي وعشاق الكهوف، وبين الحالمين بغد مشرق لدولة مدنية تشيع فيها أجواء الحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية ويحكمها قانون له هيبة، وليس سلاح سائب وقادة يخشون تسمية الأشياء بأسمائها، صراع بين التبعية والاستقلال، بين الوحدة والتشرذم، بين الاعتدال والتطرف، بين دولة معاصرة تتمثل المستحدث من القيم، وتستحضر رصيدها من الأصيل، وبين اخرى يحكمها مغامرون وفاسدون وقصار النظر.

ينتفض الشباب من أجل أن يكون للوطن معنى، وليس كيانا مبعثرا لا يحتل من القوائم سوى ذيولها، وان يكون للمرأة دورها الفاعل في المجتمع، وليس عورة يُستحى منها، نريد لها كيانا مميزا واستقلالا اقتصاديا، تتمتع بثقة عالية بالنفس، لا تابعة ذليلة تتحكم بها أهواء الرجال، فهي أكثر من نصف المجتمع ولابد من تمكينها لمواجهة تاريخ من المأساة كما تقول سيمون دي بوفوار، فهي ليست بأقل من الرجال شأنا كما يقولون، ألم تكن في مقدمة صفوف المنتفضين، تأملوا في فيديوهات الانتفاضة، انهن يناضلن من أجل تحرير مَنْ سُلبت ارادتهن.

يتصدى الشباب المستنير للمعتم من الأفكار والمفاهيم التي يريد البعض اجبارنا على الاستسلام لها، وفي المستنير تكمن المحبة والتسامح والقبول بالآخر، وامتزاج جميع ألواننا الاجتماعية، وكل ما من شأنه تشكيل مجتمع متحضر، فلا يقبل العراقيون شبابا وشيوخا بغير ذلك.

فمن غير المعقول أن يفترش أطفالنا الأرصفة وتقاطعات الطرق، بدل أن يكونوا في النوادي العلمية وصالات الموسيقى والقاعات الرياضية، من العيب على صناع الحضارة أن يتحول أطفالهم الى وسيلة للاستجداء، وشبابهم مشاريع موت للكراهية، ونسائهم سبايا لدى أصحاب اللحى الكثة والشعر الأشعث.

يريد الشباب لبلادهم ان تكون فضاء للبهجة، وليس كهفا للنواح والبكاء، وليس غير الفنون تشيع الفرح في النفوس، فأطلقوا الأوتار وصدحت الحناجر بحب العراق، ورُسمت اللوحات على الجدران، لتقول ان الفن أبلغ وسيلة لشحذ الهمم والنهوض بالأوطان، متحدين من يُحّرم الفنون وكأنها رذيلة، أليس أول قيثارة في العالم كانت عراقية؟.

لقد وضعنا الشباب بمواجهة المتراكم من التخلف الذي خلفه أنصار المحاصصة وحواضن الدواعش، والذين لا يصلحون الا ان يكونوا أبواقا للغير، والذين لا يُعرف لهم موقف محدد، والذين يطلقون الناعم من الكلام ويضمرون ما يجافيه، والذين أغمضوا عيونهم عن المستنقع الآسن طمعا بالسلطة، وشرعية المواجهة تكمن في السؤال الذي يطرحه الجميع: أين نحن مما بلغته المجتمعات من حولنا ؟.

وانفجرت الانتفاضة في وقت دب فيه اليأس في النفوس، وبلغ الخنوع مبلغه في جيل عصرته الحروب وأوهنه الحصار، ولم يكن فيه ذاك الحماس لتحريك الراكد من الواقع مع قساوة مرارته، وظن الآباء ان الأبناء مشغولون بما لا طائل منه، وانهم لم يروا من المستنير شيئا، ولذا فلا أمل في التغيير، لكن النتائج جاءت على عكس ما توقعه الآباء، فأنعش الأبناء بعضا من بقايا جذوة الشباب فيهم، فاتسعت حدقات العيون اعجابا، وصار الأبناء نماذج للاحتذاء، لقد بث الشباب في الجسد العليل أملا كبيرا، ومن يؤمن بالمستنير لا محالة منتصر.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق