q
تقاس قيمة الحراك الشعبي بالإنجازات التي يحققها في الطريق الى الدولة الحضارية الحديثة، هذا ما يمكن اعتباره حراكا شعبيا تقدميا، بما يعني التقدم صوب هذا الهدف الاعلى البعيد، وعكسه الحراك العكسي إذا ادى الى اجراءات وانجازات تتراجع عن الدولة الحضارية الحديثة، وتعيق تقدم المجتمع نحوها...

تقاس قيمة الحراك الشعبي بالإنجازات التي يحققها في الطريق الى الدولة الحضارية الحديثة، هذا ما يمكن اعتباره حراكا شعبيا تقدميا، بما يعني التقدم صوب هذا الهدف الاعلى البعيد، وعكسه الحراك العكسي إذا ادى الى اجراءات وانجازات تتراجع عن الدولة الحضارية الحديثة، وتعيق تقدم المجتمع نحوها، ويقاس ذلك كله بما يتحقق باتجاه المواطنة والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم الحديث.

وهذا كله يتطلب ان ينطلق الحراك الشعبي من فكر حضاري متقدم وليس من مشاعر غضب واحتجاج ورفض للواقع القائم السيء، وهذه ظاهرة تاريخية مضطردة. فكل الحراكات الشعبية التي ادت الى قيام الدولة الحضارية الحديثة كانت مرتبطة بفكر حضاري يشكل المحتوى او المضمون المعرفي الداخلي للحراك الشعبي.

وهذا ينطبق على الثورة الانگليزية والفرنسية والاميركية وغيرها من الثورات التي شهدها التاريخ وأدت الى قيام دول حضارية حديثة، وقد سبق هذه الثورات ورافقها انتاج فكري حضاري غزير كان هو المحفز للثورة وهو الدليل في بناء الدولة الناتجة عن الثورة، حتى الدول القديمة السابقة على الدولة الحضارية الحديثة كانت نتاج فكر يناسب مرحلتها التاريخية. وهذا ينطبق بدوره على دول المدن في العراق القديم ومصر الفرعونية حيث نشأت اولى الحضارات البشرية في التاريخ.

الحراك الشعبي الراهن في العراق، والذي مازال في طور التظاهرات الاحتجاجية يمكن ان يتحول الى انتفاضة، بل الى ثورة شعبية، ثم الى دولة حضارية حديثة، اذا توفرت الشروط الموضوعية لذلك والتي من بينها او ربما في مقدمتها وجود فكر حضاري يستهدي به المتظاهرون ويربطهم ايمانيا باطروحة الدولة الحضارية الحديثة التي ينبغي ان تشكل المستقبل المأمول بالنسبة لعموم العراقيين. ان المستقبل صورة فكرية في اذهان الثائرين، وبقدر وضوح هذه الصورة وتألقها بقدر ما يزداد زخم العمل ويتعمق تفاعل الناس معها.

الا اننا نلاحظ فقرا او قصورا او تقصيرا او غيابا للفكر الحضاري في الحراك الشعبي الراهن. ولولا شذرات الفكر السياسي العميق التي تطرحها الخطبة الثانية للمرجعية الدينية كل يوم جمعة لقلنا بالانعدام التام للفكر الحضاري لهذا الحراك.

وانما اقول قولي هذا، وارجو ان اكون مخطئاً في هذا التشخيص، بعد ان تجمعت عندي بعض الشواهد والظواهر في هذا السياق، اولى هذه الشواهد النزعة التي يبديها بعض الناس ازاء ما يسمونه "التنظير"، اي المعالجات والطروحات الفكرية ذات العلاقة، وهو رفضهم للإنتاج الفكري في هذا المجال.

والشاهد الثاني ضعف التفاعل مع ما يطرح من قضايا في الفكر الحضاري في سياق الحراك الشعبي، وانشغال المتظاهرين بقضايا أخرى، والشاهد الثالث انصراف عدد كبير من الكتاب والمثقفين عن انتاج فكر حضاري مرتبط بالحراك الشعبي وانشغالهم بالقضايا السياسية التفصيلية اليومية، والشاهد الرابع هبوط مستوى المضمون الفكري للنقاشات السياسية التي تشهدها بعض المواقع.

ان الاصلاح الذي يطالب به الحراك الاجتماعي ينبغي ان يكون منطلقا من رؤية معرفية حضارية للقضايا التي يشملها الاصلاح وليس انعكاسا لرغبات انية او ملاحظات انطباعية، خذ مثلا مسألة البطالة وكيفية معالجتها.

فمطالبة الدولة بمزيد من التعيينات الحكومية لا تعبر عن رؤية علمية سليمة للآثار السلبية الناتجة عن تضخم الجهاز الوظيفي التابع للدولة، بما في ذلك تحول الدولة الى رب عمل كبير، ما يؤثر سلبيا على مسالة التحول الديمقراطي والانتقال من الدولة الريعية الى الدولة الاستثمارية. وكذلك الموقف من الاحزاب والرافض بصورة مطلقة للحزبية، انطلاقا من الرفض الاني للاحزاب الحاكمة، وهو موقف متأثر بظرف راهن دون التفكير بدور الاحزاب في تعزيز الديمقراطية وبناء الدولة الحضارية الحديثة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق