q
نواجه في العراق حالة مماثلة. فثمة انقسام مجتمعي عميق حول مسائل جوهرية عكستها طبيعة التظاهرات والمسيرات المليونية ذات الهويات السياسية المختلفة، ويمكن ان نلاحظ ان هذا الخلاف يتعمق ويتوسع يوما بعد يوم وينتقل الى الشارع فيما يزداد تهميش المؤسسات السياسية، وخاصة البرلمان، بطريقة تشبه التظاهرات التي كانت تحصل في...

لا يمكن افتراض اجماعات مجتمعية حول كل القضايا الجارية في المجتمع سواء كانت سياسية او اقتصادية او غير ذلك، فالاختلاف في الرأي احدى الخصائص المعاشة في المجتمعات البشرية، انما المهم في هذا الصدد هو كيفية التعامل مع هذه الخلافات، وكيفية تسويتها، وتتراوح طرق التعامل من التصفية الجسدية والمادية للراي الاخر، او قمعه بالقوة، او التوصل الى حلول وسط تلبي جزءاً من طموحات كل طرف، وغير ذلك.

وتتنوع طرق التعامل والتسوية مع الاختلافات باختلاف الدرجة الحضارية للمجتمع والدولة، ومبدئيا يمكن افتراض حالتين: حالة ما قبل الدولة الحضارية الحديثة، وحالة ما بعد الدولة الحضارية الحديثة.

يعطينا التاريخ نماذج كثيرة لطريقة تسوية الخلافات في الدولة ما قبل الحديثة. وعلى تنوع وكثرة هذه النماذج فانها كانت تدور حول استخدام القوة لفض النزاعات، بالحروب الاهلية، او القتل المباشر. فالسيف كان انذاك "اصدق انباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب"، كما قال شاعر عربي ينتمي الى مرحلة ما قبل الدولة الحضارية الحديثة.

ويحدثنا التاريخ الاوروبي والاسلامي والصيني عن دماء كثيرة سُفكت بسبب الاختلاف في الرأي حول المسائل الدينية والسياسية وغيرها. ويحدثنا ابن الاثير عن معارك طاحنة كانت تحصل بين فرق المسلمين حول مسائل لاهوتية مثل هل يقبل الله توبة الكافر ام لا. ومثلها المجازر الفظيعة التي حصلت في الحروب الاهلية في اوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت.

لكن المجتمعات البشرية اخذت بعد ذلك تدرك تدريجيا ان بإمكانها تسوية خلافاتها الداخلية بطرق اقل دموية وأكثر سلمية حتى توصلت الى الديمقراطية الحديثة التي وصفها كارل بوبر بانها طريقة لتغيير الحكومة بدون اراقة دماء، وعرفها الين تورين بانها نظام لحفظ حقوق الاقليات. وهكذا الى ان توصلت البشرية الى القبول بطريقة الانتخاب او التصويت او الاستفتاء واعتماد مبدأ الاكثرية (بدل الاجماع) لاتخاذ القرارات وتسوية الخلافات على ان تذعن الاقلية الى رأي او قرار الاكثرية دون ان يعتبر ذلك اكراها، لأنه ناتج عن اجماع مسبق بقبول هذه الطريقة في حل الخلافات وتسوية النزاعات.

لدينا الان مثال قريب لسلوك هذا الطريق لتسوية خلاف سياسي مجتمعي عميق بالطريقة الديمقراطية، ذلك هو انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي.

ففي استفتاء عام حول الخروج من الاتحاد اجري بتاريخ 23 حزيران عام 2016 صوت 51.9 في المائة من الناخبين البريطانيين لصالح الانسحاب. وهذه اكثرية ضئيلة بالنسبة لمسألة مصيرية. خاصة وان نتائج التصويت عبرت ايضا عن خلاف عرقي حول الانسحاب. فقد صوت اكثرية السكوتلانديين والايرلنديين لصالح البقاء، فيما صوت اكثرية الانگليز لصالح الانسحاب وهذا خلاف كان من شأنه ان يفتت المملكة المتحدة.

ولكن بعد سلسلة من المناورات السياسية والجماهيرية والبرلمانية تم حل المسالة ديمقراطيا لصالح البقاء وصمت المعارضون لأنهم ارتضوا مسبقا بقواعد اللعبة الديمقراطية.

نواجه في العراق حالة مماثلة. فثمة انقسام مجتمعي عميق حول مسائل جوهرية عكستها طبيعة التظاهرات والمسيرات "المليونية" ذات الهويات السياسية المختلفة. ويمكن ان نلاحظ ان هذا الخلاف يتعمق ويتوسع يوما بعد يوم وينتقل الى الشارع فيما يزداد تهميش المؤسسات السياسية، وخاصة البرلمان، بطريقة تشبه التظاهرات التي كانت تحصل في اليمن في اواخر عهد الرئيس علي عبد الله صالح، هذه حالة مرضية وقد تنذر بمضاعفات وخيمة ولابد من حلها ديمقراطيا.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق