q
أهم مآلات التصعيد بين الطرفين ما أشرنا إليه بجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات والردود كمحاولة منهما لاستبقاء وتمدد نفوذه إزاء الآخر، فطهران تريد أن يبقى العراق منطقة نفوذ لمواجهة المشروع الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة، ومكافحة أي تهديد لنظامها وأمنها، في المقابل تعتقد واشنطن أن وجود...

تدحرج التصعيد بين واشنطن وطهران بعد حادثة استهداف قاعدة عسكرية في كركوك، تتواجد فيها قوات أمريكية، من قبل فصائل عراقية مسلحة مقربة من إيران، وقد أعلنت واشنطن أن هناك ١١ استهداف متكرر خلال فترة محددة للقوات الأمريكية في العراق، قتل فيها مقاول أمريكي وجرح عدد من الجنود الأمريكيين، وجاء الرد الأمريكي في مدينة القائم باستهداف مقرات كتائب حزب الله اللواء ٤٥،٤٦، مخلفا عشرات الشهداء والجرحى.

كان من الطبيعي أن ترد تلك الفصائل، لكن كان الرد سياسيا عبر احتجاج قرب السفارة الأمريكية في بغداد تحول إلى اقتحام وحرق لها، هذا الفعل استفز واشنطن بشكل غير مسبوق وقرر الرئيس ترامب الرد على إيران مباشرة لكن داخل الأراضي العراقية، مستهدفا الجنرال قاسم سليماني وجمال طه المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي قرب مطار بغداد بطائرة مسيرة أودت بحياتهما مع رفاقهما، ردت طهران باستهداف قاعدة عين الأسد بعدة صواريخ باليستية، وتعرضت قاعدة التاجي والسفارة الأمريكية في بغداد لهجمات صاروخية لم يتبناها أي طرف.

توقف التصعيد العسكري عند هذا الحد بسبب اعتراف إيران بإسقاط الطائرة الأوكرانية وضغوطات الداخل نتيجة خروج احتجاجات مناوئة للنظام، وأيضا لقيود داخل الولايات المتحدة تتعلق برفض الحرب والتصعيد مع إيران، إضافة إلى قرب الانتخابات الأمريكية وتداعيات عزل الرئيس ترامب في الكونغرس التي شكلت قيود للطرفين في تهدئة الصراع، لكن احتمالات تكرار التصعيد لازالت قائمة، فبعد أن شاهدنا رد إيران الدولة سننتظر رد إيران الثورة، هذا الرد والرد عليه سيكون محدودا ومحصوراً في العراق، ومن المستبعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق، لكن قد يكون هنالك إعادة انتشار على المدى المتوسط، إن استمر التصعيد فالوضع لن يكون خارج عن السيطرة، لأن أسبابه ليست إشعال حرب؛ إنما الرهان: إيرانيا، على خسارة ترامب الانتخابات عبر جره إلى المواجهة مع إيران. وأمريكيا، عبر استمرار تنفيذ قرار ترامب بعدم السماح لإيران بالتمركز في سوريا والعراق.

ورغم تفهم ترامب مخاطر الصدام مع إيران على المنطقة وعلى حظوظه الانتخابية، لكنه سيواصل منعها من مضاعفة نفوذها وتقويض نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط، وهذا يمكن أن يفجر الموقف، وتفاديا لهذا المشهد، سيتحول ترامب في المرحلة المقبلة إعلاميا ودبلوماسيا واقتصاديا نحو التركيز على البرنامج النووي الإيراني.

أهم مآلات التصعيد بين الطرفين ما أشرنا إليه بجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات والردود كمحاولة منهما لاستبقاء وتمدد نفوذه إزاء الآخر، فطهران تريد أن يبقى العراق منطقة نفوذ لمواجهة المشروع الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة، ومكافحة أي تهديد لنظامها وأمنها، في المقابل تعتقد واشنطن أن وجود إيران في العراق هو مفتاح لمضاعفة نفوذها في كل المنطقة باتجاه سوريا ولبنان ومن ثم تهديد إسرائيل، إضافة إلى حلفاءها العرب في منطقة الخليج مما يقوض جهودها.

الأسوء من كل هذا هو الإنقسام العراقي حول الأزمة بين مؤيد لإيران ورافض للولايات المتحدة والعكس صحيح، كما راهنت الطبقة السياسية التي تواجه احتجاجات مطالبة برحيلها على هذا الصراع لتحويل بوصلة الضغط الشعبي من اختيار رئيس وزراء جديد وكابينة وزارية جديدة ومن ثمَ انتخابات مبكرة تكون بداية لإضعاف نفوذ الأحزاب الحاكمة، إلى سجال بين فريقين: فريق يدعو لضرورة إخراج القوات الأمريكية من العراق لأنها انتهكت سيادة العراق، وبالتالي عدم الاستجابة إلى مطالب المحتجين وإيقاف أي تغيير أو إصلاح مرتقب وتذويب زخم الاحتجاجات، وفريق آخر يرى أن اغتيال سليماني في بغداد جاء كدليل واضح على الدور الذي تلعبه إيران في العراق، إلى حد جعلها تتحكم بشكل أو بآخر بالقرار السياسي العراقي وإفقاده استقلاليته مما شكل ضغطا إضافيا على الطبقة السياسية الراهنة.

كما يتيح هذا التصعيد بعد اغتيال سليماني فرصة لإيران لإخراج ترامب من البيت الأبيض، إذ تركز طهران الآن وفي قادم الأيام على محاولة توريطه بنزاع محدود لن تكون فيه القوات الأمريكية بأمان في أي مكان، ويتيح لها تهديد أمن المنطقة، يعمل على تعزيز الاصطفاف الشعبي والسياسي إزاء القيادة الإيرانية والتغطية على حادثة الطائرة الأوكرانية والاحتجاجات داخل إيران.

يدرك ترامب تماماً مخاطر مآلات التصعيد مع إيران، رغم تجاوزه الخطوط الحمر باستهداف سليماني لكنه كان يبحث عن منطق الردع لا الحرب، كما أنه يريد أن يجبر طهران على التفاوض، فهو يعلم أن التعامل مع إيران يقع ضمن ثلاث خيارات:

أولا: غض الطرف عن أي شيء تفعله إيران وابتلاعه ولو على مضض.

ثانيا: شن حرب شاملة ضدها وتدميرها.

ثالثا: السبيل العقلاني عبر التفاوض وفق الخيار الدبلوماسي.

بالنسبة للخيار الأول، فهو يعد مهين لقدرة واشنطن وتهديد لحلفائها، أما الثاني، فله إنعكاساته ومخاطره الدولية والإقليمية والداخلية، فلم يبقى إلا الخيار الثالث، وهو القنوات الدبلوماسية وتبقى سياسات الضغوط القصوى تجاه إيران هي المفتاح لإجبار إيران على التفاوض، لكن لابد من إيجاد صيغة لإطلاق المفاوضات ولو عبر تحديد بعض ضوابط التهدئة يتم التوصل إليها عبر الوسطاء وفق قنوات الدبلوماسية السرية التي كان يعمل عليها أوباما مع طهران.

إن بلوغ التصعيد بين الطرفين ذروته قد يقنع الطرفين بوجوب التفاوض لاحتواء أي تطورات لاحقة قد تخرج عن السيطرة، لكن لازال الجمود والتصلب بالمواقف هو سيد المشهد، فإيران ترفض التفاوض تحت الضغط الاقتصادي، وترامب يضغط على أوروبا بضرورة البحث عن اتفاق نووي جديد، تميل كفته لصالحه ويضعف إيران، في حين إيران تتمسك أما بإستئناف برنامجها النووي وتهديد المنطقة والعالم أو العودة إلى خطة العمل المشتركة القديمة التي انسحب منها ترامب وتراهن على رحيله من البيت الأبيض لاستئنافه.

لا تمتلك طهران حاليا إلا ورقة عدم الالتزام ببنود الاتفاق النووي لتصعيدها ضد واشنطن وهي فعلت ذلك، مما دفع بريطانيا وألمانيا وفرنسا الأسبوع الماضي إلى تفعيل آلية فض النزاع الخاصة بالاتفاق النووي الإيراني، لكن هذا يحتاج إلى تطوير سياسة واقعية للتعامل مع إيران لا يسهم في إطالة الأزمة ولا يمنحها مبررات السلوك المتشدد على الساحة الدولية والإقليمية، كما أن أي مبادرة بريطانية أو فرنسية، يتوقف نجاحها على استعداد الولايات المتحدة وإيران للتعاون، وهذا يعني ضرورة أن يتحركا في مواقفهما خارج الجمود والتصلب الحالي، وهذا يستوجب على إيران كخطوة أولى، أن توقف إجراءات خفض الالتزامات، ليقوم ترامب بتخفيف القيود على صادرات النفط، ثم يتبع ذلك خطوات أخرى لإثبات تغيير السلوك الإيراني ليلاقي استجابات أميركية.

كلّ ذلك يبقى مجرد رهان على خيارات متوقعة في إطار ضبط التصعيد المطلوب وفق المعطيات الدولية والإقليمية الحالية، لكن عمق الخلاف والأزمة بين الطرفين أوسع من ذلك، فما تريده الإدارة الأمريكية الحالية هو أن تكون إيران خاضعة ومطيعة، وما ترغب فيه إيران وقيادتها بالتحديد، هو سحب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط.

ولهذا في الأشهر القادمة من التصعيد الإيراني الأمريكي سيكون مختصرا على تهديد إيران باستئناف برنامجها النووي وضربات لقواعدها في العراق، والتهديد مرة أخرى بمياه الخليج ومضيق هرمز، وقيام ترامب بمضاعفة الضغوط القصوى ومحاولة تهميش وتقويض نفوذ المرشد الأعلى داخل إيران والعمل على دعم أي حركات احتجاجية داخل إيران وداخل مناطق النفوذ المتشابكة وخاصة في العراق ولبنان وسوريا، وهذا يعني أن الأسابيع والأشهر القادمة ستكون حافلة بالتصعيد والمتغيرات.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2020Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق