q
إن مشاهد العنف الدموي التي تظهر بين فترة واخرى في العراق تمثل أخطر تحدٍ للحراك الجماهيري المطلبي الذي لا يختلف عليه اثنان في العراق، حيث الفساد والتخلف والحرمان بلغ مراحل لا يمكن السكوت عنها بالمرة، وهذا الإيغال بالفساد بحد ذاته يمثل استفزازاً غير مباشر نحو السقوط في...

انه لصمود يحتذى به لشباب الإصلاح والتغيير في سوح الاعتصامات أمام كل هذا الطرق العنيف والدموي متمثلاً بعمليات القنص والاختطاف والاغتيال بالرصاص والسكاكين وهم ممسكين بجمرة السلم في سبيل الوصول الى اهدافهم المشروعة بإعادة الحقوق والكرامة.

وعلى طول خط الصراع من اجل الهيمنة والحكم في العالم جرت المحاولات لفرض معادلة الدم لتكون هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الاهداف المنشودة، "فبمقدار ما تسفك من الدماء، تكون أقرب الى اهدافك"، وقد شهد العراق تجربة هذه المعادلة منذ اواسط القرن الماضي عندما شهد لأول مرة في تاريخه، السحل بالشوارع، ثم الاعدامات في الساحات الكبيرة، ومن ثمّ تشييد السجون وغرف التعذيب الحديثة والمجهزة بأحدث الوسائل، الى أحدث وسائل القتل والتصفية الجسدية.

صدام ومعادلة "الصِدام الدموي"

في مقطع مسجل لرئيس النظام البائد (صدام)، يعود ربما الى بدايات تسلمه منصب رئاسة الجمهورية، يتحدث عن أن المعارضين "للثورة" "إن بلغ عددهم عشرة، أو مئة، أو ألف، أو عشرة آلاف، فان قتلهم لن يحرك عندي شعرة واحدة"! وهو بذلك يبين للعراقيين آنذاك مشروعية التصفية الدموية، فهو ليس محباً للقتل كما يردف في حديثه بأنه ربما يرفّ قلبه عندما يسحق نملة تحت قدمه! إنما اهدافه وبرامجه في الحكم هي التي تقتضي ذلك، وحتى لا تعيق مسيرة التنموية لتحقيق الاستقرار والازدهار للشعب العراقي.

وقبل أن يصل الى هذا المنصب، كانت المؤسسة "الامنية" لحزب البعث في العراق قد جربت معادلة الدم مع العراقيين عبر حرب نفسية قاسية بإشاعة اسطورة "ابو طبر" الذي يتنقل بين البيوت ويقتل الناس بهذه الآلة الرهيبة، وكان نجاح هذه المعادلة كبيراً، عندما كانت عناصر "الأمن" تلتقط المعارضين هنا وهناك وتقتلهم بصور بشعة لإضفاء المصداقية.

وفي وقت لاحق عمد حزب البعث الى خطوة متقدمة لتكريس هذه المعادلة بخلق الحالة المليشياوية في المجتمع لأول مرة بالعراق، عندما أعلن عن تشكيل "الجيش الشعبي" مستهدفاً شريحة طلاب الاعدادية، ثم تشكيل "الطلائع" الخاصة بطلبة الابتدائية، وخصص لذلك المعسكرات والمخيمات للتدريب على القواعد الأولية لهذه المعادلة وليكون هؤلاء الطلاب الصغار فيما بعد بيادقاً في الصراعات والحروب عند الحاجة، وإرسال الرسالة الى من يهمه الأمر بأن من يريد التحدث عن مسألة القيادة والحكم عليه المرور من خلال معادلة الدم.

منهج التصفيات المؤدلجة

يبدو أن عدوى التصفيات المؤدلجة التي شهدها العالم بعد ظهور الماركسية في روسيا ثم في الصين، هي التي أفسحت المجال لوجود معادلة الدم في الحياة السياسية وحتى الاجتماعية في بلادنا، ولاسيما العراق الذي شهد أشكالاً بشعة من القتل تحت مبررات "ثورية" وأن من يقتل يستحق القتل كونه "عدواً للشعب"!

وبعد الاطاحة بنظام صدام على يد القوات الاميركية، ظن العراقيون أن معادلة جديدة سيجربونها لحسم مشكلة القيادة والحكم؛ وهي المعادلة الديمقراطية يكونون أحد طرفيها، فيما تكون الاحزاب السياسية الطرف الآخر، ويتم بذلك ما بات يعرف بالعملية السياسية، وطي صفحة الدم المريعة طيلة السنوات الماضية.

ولكن؛ إسقاطات المنهج العنيف لسلطات الاحتلال الاميركي على الواقع الاجتماعي أحيا من جديد تلك المعادلة البغيضة وقضى على أحلام العراقيين بالعيش الآمن ، فظهرت الجماعات المسلحة ذات الانتماءات المتعددة والتي أتخمت بالسلاح والعتاد المنهوب من معسكرات الجيش تحت أنظار القوات الأميركية، وكان أفضل مشروعية لهذه الجماعات؛ المقاومة للمحتل، وتحت هذا الشعار شنت عمليات ارهابية دموية كشفت عن حقيقة اهدافها التكفيرية والطائفية، فكان المستهدف المواطن العادي في الشارع والسوق والمرأة والطفل الصغير، اكثر مما هو الجندي الاميركي المحصّن في مقراته ودخل آلياته المدرعة، أما الغاية القصوى التي بانت فيما بعد، فهي الوصول الى السلطة عبر هذه المعادلة المريعة لا غيرها.

إن وصول بعض الوجوه المليشياوية الى المناصب الكبيرة في مؤسسات الدولة والحكومة، كرّس نجاح هذه المعادلة لدى اصحاب الايديولوجيات المتطرفة على أنها الطريق الوحيد للوصول الى ما يريدون وفرض رأيهم وطريقة تفكيرهم على الآخرين.

لا لإراقة الدماء

منذ أول تجربة لمراجع الدين في التصدّي للقضايا السياسية في التاريخ الشيعي الحديث، كان أول ما يسلطون الضوء عليه؛ الطرق الكفيلة بالحؤول دون إراقة الدماء، او على الأقل الاقتصاد بالدماء، وعدم تبني معادلة الدم مهما كانت الاسباب والدوافع. لنأخذ مثالاً في فتوى الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي ضد معاهدة بيع امتياز زراعة و انتاج التبغ في ايران لاحدى الشركات البريطانية في نهايات القرن التاسع عشر، وهي قضية تجارية واقتصادية في ظاهرها، بيد أن المرجع الديني الأعلى في زمانه، والمقيم آنذاك في سامراء، استشرف الغايات من هذه المعاهدة، وأنها خطوة متقدمة للاستعمار البريطاني لمزيد من استعباد الناس ونهب ثروات المسلمين، مع ذلك فان فتواه التي تحولت فيما بعد الى "ثورة التبغ"، استغرق صياغتها حوالي اسبوعين، والسبب كان في سلسلة المشاورات والمداولات التي أجراها الميرزا الشيرازي مع العلماء والفقهاء وايضاً مع الوجهاء الاجتماعيين في ايران للتحقق من أن لا تتسبب الفتوى بإراقة الدماء، لان فتوى تحريم استخدام التبغ يعني إغلاق جميع المحلات والمتاجر الضخمة الخاصة بتسويق التبغ الذي سيكون انتاجه بريطانياً.

وهو ما قد يمكن البريطانيين من احداث خروقات أمنية وسط المجتمع وخلق نزاعات وخلافات بين الناس، وعند التأكد من أن الفتوى سيطبقها الناس بطريقة ذكية تحفظ لهم الأمن والاستقرار، وتطرد البريطانيين عن أراضيهم وثرواتهم، أصدر فتواه الشهيرة بحرمة استخدام التبغ المنتج بريطانياً.

وكذا الحال بالنسبة لفتوى الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي لشن العمليات المسلحة ضد القوات البريطانية عام 1920 والتي عرفت فيما بعد بثورة العشرين، فهي لم تصدر، رغم الدعوات الملحّة والمطالبات المتكررة من شيوخ العشائر والوجهاء الذين كانوا يتوافدون على كربلاء المقدسة، حيث مقر إقامة المرجع الديني الأعلى في زمانه، ولم يصدر الميرزا الشيرازي فتواه إلا بعد التحقق من عزيمة وقدرة العشائر على خوض المواجهة المسلحة مع البريطانيين للوقوف بوجه الخطوة الاستعمارية الجديدة بفرض حاكم اجنبي على العراق.

ونفس الأمر يتكرر مع فتوى الجهاد الكفائي لمواجهة تنظيم "داعش" التكفيري، والذي أصدره المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني، فهي لم تصدر بهدف الظهور امام العالم بأن الشعب العراقي محب للدماء والقتل، بقدر ما هي فتاوى للحرب الدفاعية التي تكشف عن الحقيقة الدموية للطرف المقابل امام العالم، وهو ما حصل.

ولطالما حذر علماؤنا من مغبة السقوط في فخ "استخدام سلاح العدو لمحاربته"، (الامام الراحل السيد محمد الشيرازي)، وإنما اتباع سلاح القيم والمبادئ، وجعل الانسان وكرامته ذات أولوية قصوى.

إن مشاهد العنف الدموي التي تظهر بين فترة واخرى في العراق تمثل أخطر تحدٍ للحراك الجماهيري المطلبي الذي لا يختلف عليه اثنان في العراق، حيث الفساد والتخلف والحرمان بلغ مراحل لا يمكن السكوت عنها بالمرة، وهذا الإيغال بالفساد بحد ذاته يمثل استفزازاً غير مباشر نحو السقوط في معادلة الدم بدعوى استنفاذ كل الوسائل لتغيير الوضع الراهن، هذه مغالطة كبيرة تكرس الواقع الفاسد نفسه، ثم تضيّع كل الجهود والتضحيات من أجل خروج العراق من أزماته ومشاكله الى حيث الأمان والرفاهية والتقدم.

اضف تعليق