q
لقد أصبح وجود هيئات مجتمع مدني اليوم عاملاً أساسياً من عوامل نجاح التنمية المستدامة، في المجالات المختلفة، إذْ لا يمكن للدولة القيام بمهماتها دون مساعدة ومساندة ودعم منها. وهكذا فإن وجود هيئات للمجتمع المدني العربي، وهو أمر قائم، وتوسيع دورها الفعلي يفتحان الباب لشراكة جديدة في الحياة العامة...

شكّل مؤتمر «فكر 17» الذي انعقد في الظهران مؤخراً تظاهرة حقيقية لمراجعة تيارات الفكر العربي والمفاهيم السائدة، وذلك في ضوء التحوّلات العميقة التي يشهدها عالمنا وازدياد حجم المعرفة العلمية المختلفة ونتائج ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام، الأمر الذي يطرح على المثقفين العرب أسئلة ملحّة راهنة ومستقبلية تتعلق بموقع الإنسان العربي من هذه التحوّلات وأي فكر عربي جديد يحتاج، خصوصاً أن الفكر هو انعكاس للواقع الاجتماعي والاقتصادي ودرجة تطور المجتمع.

وكان ثمة محاور اقترحتها مؤسسة الفكر العربي للنقاش والحوار تتعلق بالسياسات التربوية ودور العلوم الاجتماعية والإنسانية والثورة الصناعية الرابعة والمفهوم الجديد للتنمية والاقتصاد الرقمي، ومفاهيم الدولة والمواطنة والمشاركة وثقافة التسامح ودور الثقافة والمثقفين في بلورة رؤى وتصورات جديدة يمكن أن تشكل ملامح أولية لفكر عربي جديد، إضافة إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه مؤسسات المجتمع الأهلي في تجديد الفكر العربي.

وإذا كان ثمة مجتمع أهلي فإنه يختلط بغيره من المفاهيم، فهو غير المجتمع المدني، الذي نطلق عليه أحياناً اسم «القطاع الثالث» (أي بين القطاعين العام والخاص)، أو القطاع غير الهادف إلى الربح، أو المعفى من الضرائب أو «القطاع المستقل» أو المنظمات التطوّعية، ويقصد به أحياناً المؤسسات الخيرية وهذه التسميات جميعها تصف شيئاً واحداً، هو وجود مؤسسات غير حكومية مستقلة عن أجهزة الدولة، وإنْ كانت مختلفة ومتنوّعة في أهدافها ووسائلها.

وفي المجتمع الأهلي تنشأ العلاقات بصورة تقليدية ومتوارثة في الكثير من الأحيان عبر العائلة أو العشيرة أو الدين أو الطائفة أو القومية أو المنطقة الجغرافية أو غير ذلك. أما في المجتمع المدني فهي غير متوارثة، أي أن الانتساب إليها حرٌّ ووفقاً لخيارات الإنسان، وتخضع لمبدأ الانتخاب والتداول. وبهذا المعنى تختلف مؤسسات المجتمع المدني عن هيئات المجتمع الأهلي، ففي حين أن الأولى مفتوحة وحداثية، فإن الثانية محصورة بالعشيرة أو الطائفة أو المنطقة، أو غيرها ولا تقبل الانتساب إليها من خارج الدائرة الضيقة. وبهذا المعنى فإن مؤسسات المجتمع المدني تمتاز بالتنوّع والاختلاف والتعدّدية داخلها، أما الثانية فهي هيئات فئوية خاصة أي مقتصرة على مجموعة محدّدة بحكم رابطتها الخاصة ولا تسمح بالانضمام إليها إلّا لمن هم من نفس الصنف.

وهكذا تختلف هيئات المجتمع المدني عن هيئات المجتمع الأهلي من حيث الأهداف والوسائل:

أولها- أنها لا تستهدف الوصول إلى السلطة ولا تنخرط في الصراع الإيديولوجي والسياسي الدائر في المجتمع وأنها تضع مسافة واحدة بينها وبين السلطات من جهة وبينها وبين المعارضات من جهة أخرى، وهدفها دعم خطط ومشاريع التنمية والسعي للمشاركة في اتخاذ القرار وفي تنفيذه ومراقبة حسن الأداء للجهات الحكومية.

وثانيها- اقتراح مشاريع قوانين ولوائح وأنظمة وتقديمها إلى الجهات التشريعية والحكومات، ومناقشة ما يصدر عنها، سواء في إعدادها أو بعد صدورها.

وثالثها- الإسهام في بناء مواطنة سليمة ومتكافئة ودون تمييز لأي سبب كان من خلال نشر وتعميم قيم التسامح والسلام واللّاعنف والمساواة والعدالة والمشاركة والتعايش وقبول الآخر.

ورابعها- العمل على بناء قدرات الأفراد وتأهيلهم وتنمية مهاراتهم وتدريبهم ليساهموا مع مجتمعاتهم وفي مؤسساتهم المهنية والاجتماعية والنقابية للدفاع عن مصالح منتسبيها وعن مصالح المجتمع ككل، انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية وتنمية روح الحوار والتفكير الحر والحق في التعبير.

وخامسها- تشجيع الجهود التطوّعية والمبادرات الفردية والجماعية، بما يعزّز التضامن والتكافل والتعاون والتساند بين جميع الفاعليات.

باختصار فإن المفروض في هيئات المجتمع المدني أن تصبح «قوة اقتراح» وشريكاً ومكمّلاً للدولة، وهذا يحتاج إلى توفر شروط وأسس قانونية واقتصادية - اجتماعية وثقافية واستقلالية مالية لكي تقوم بدورها، وذلك في إطار تلازم بين الدولة والمجتمع والمواطن والسوق، ولا يمكن تصوّر دولة دون مجتمع، كما لا يمكن تصوّر مجتمع دون دولة، أي قوانين وأنظمة ومؤسسات لحفظ النظام والأمن العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، ويفترض أن تسعى الدولة لتوفير مستلزمات العيش الكريم لمواطنيها وتهيئة الفرص المتكافئة أمامهم للتطوّر والمنافسة الحرة.

لقد أصبح وجود هيئات مجتمع مدني اليوم عاملاً أساسياً من عوامل نجاح التنمية المستدامة، في المجالات المختلفة، إذْ لا يمكن للدولة القيام بمهماتها دون مساعدة ومساندة ودعم منها. وهكذا فإن وجود هيئات للمجتمع المدني العربي، وهو أمر قائم، وتوسيع دورها الفعلي يفتحان الباب لشراكة جديدة في الحياة العامة لتفعيل وتجديد الفكر العربي ومنظوراته إزاء قضية التنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة، إذْ لا يمكن إحداث تغيير فكري حقيقي دون مساهمة جادة من جانب المجتمع المدني، وذلك جزء من مسار كوني لا يمكن لأي مجتمع أن يعفي نفسه منه، وهنا يكمن التوازن والتكامل بين الدولة والمجتمع، فوجود هيئات للمجتمع المدني نشيطة وفاعلة وشريكة، يعني وجود دولة قوية ومواطنة حيوية ومتكافئة وفكر منفتح يتقبل الاختلاف.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق