q
لا يمكن القاء اللوم على المتظاهرين في حرب الصور، لانهم اصحاب حق، وان الحكومة من مسؤوليتها تطبيق قواعد العدالة لصالحهم، اما ان تعاملهم كمخربين يجب الانتصار عليهم، فهذا قد يكبح التظاهرات وقد يبدد المطالب وقد يتم تخدير المتظاهرين لكن كل تلك الافعال لا تحقق المصلحة الوطنية...

التظاهرة الشعبية هي عبارة عن "صورة وجدانية"، تتشكل عبر الشعارات والهتافات والتصريحات والبيانات ومن ثم تخرج الى نطاق ابعد عبر اعادة تشكيل هذه الصورة من قبل وسائل الاعلام التي تقوم بنقل الصورة كما هي _ وهذا لا يحدث الا نادرا_ او تشكيل صورة جديدة، قد تكون ايجابية او سلبية.

ولان التظاهر الشعبي هو فعل سياسي يخرج ضد طرف اخر غالبا ما يكون السلطة الحاكمة، نحن هنا امام حالة من الصراع تقوم على ثنائية العدو والصديق، مهما حاولت الاطراف انكارها، ومن اجل بناء الصورة يحتاج كل طرف الى صورة ايجابية للذات وبنفس المقدار صورة سلبية للعدو، وتتشكل الثنائية بالاعتماد على تبسيط للمفاهيم والتصورات بشكل يصل الى التجهيل بابسط الحقائق لان الحقيقة لم تعد هدفا نهائيا انما الانتصار على العدو الشرير الذي يستحق الهزيمة هو الهدف، وكل الوسائل مشروعة للتعامل معه لان التخلص من الشر عمل من اعمال الخير.

وبما اننا نتحدث عن طرفين يبنيان صورة عن بعضهما وهما الحكومة من جهة، والشعب الذي خرج الى ساحات التظاهر من جهة اخرى، تبدو عملية بناء الصورة بالنسبة للمتظاهرين اسهل بكثير، فهم يمثلون الارادة الشعبية بحسب ما تفرضه ظروف خروجهم، والعدو بالنسبة لهم هو المنظومة السياسية الفاسدة التي يشهد الجميع بمن فيهم وزرائها بانها تعاني من الفساد وهذا يسهل عملية بناء صورة سلبية لها كونها (اي المنظومة الحاكمة) تمثل الشر الذي يجب التخلص منه، واي فعل يساهم باقتلاع هذا الشر يمثل الخير، فرسمت صورة ايجابية للتظاهرات بكل سهولة.

في الجانب المقابل، ورغم اعترافها بفسادها، لكن الحكومة كانت تبحث عن عدو، وبما ان النظام الديمقراطي يصعب عملية وصم المتظاهرين بالاعداء فقدسقطت الحكومة في مأزق، لكنها وجدت المخرج اخيرا عبر العزف على وترف المندسين، وسوقتهم كصورة عامة للتظاهر، والحديث عن مندسين يعني الحديث عن عدو والعدو يجب ان نقاتله، ومن يحق له قتاله، بالتاكيد الحكومة مسؤولة عن ذلك، بمعنى ان ترويج صورة المندسين هو تبرير لقمع التظاهرات، لكن المشكلة ان هذه الصورة باتت مألوفة ولم تصمد امام التيار ولم تعد مقبولة جماهيريا، وهنا دخلنا في مجال جديد لصنع العدو، فماذا فعلت السلطة؟

انتقلت الى اللعب على الوتر الاخلاقي، وهو اكثر ما يخشاه شعب شرقي محافظ مثل الشعب العراقي، هل شاهدتم المقاطع المصورة لبعض حفلات الرقص، وتشغيل الاغاني الصاخبة داخل التظاهرات؟ هذا ليس عملية اعتباطية، هناك عمل حثيث لرسم صورة "عدو" داخل التظاهرات لتبرير قمعه اجتماعيا هذه المرة، والحكومة هنا ومعها الاحزاب المتنفذة يريدون بهذه الصورة ان يمنعوا العوائل من الذهاب الى ساحات التظاهر ما دامت هذه الافعال منتشرة هناك.

صورة التظاهرات باعتبارها ممارسة سياسية كفلها الدستور تضغط على صورة مضادة هي صورة الواقع الفعلي، او صورة الحكومة وادائها، تلك الصورة الجميلة التي ترسمها الحكومة عن نفسها، كما يحرص المستفيدون من الحكومة والمتنفذون على تثبيتها وديمومتها باقصى قدر ممكن، لان شرعيتهم قائمة عليها، وبدونها يستحقون العقاب الشعبي، ومن ثم فان ما تسوقه التظاهرات من صور إيجابية عن الحراك الشعبي يمثل عامل ضغط كبير يدفع الحكومة اما للتصحيح والاصلاح، او للرد على مصدر الهجوم الصوري.

في الديمقراطيات الراسخة يتم التعامل مع التظاهرات على انها صورة للواقع نفسه وعلى انها مصدر الشرعية، وبالتالي الاستجابة للتصحيحات التي تطلقها هو ما يجعل من صورة الحكومة اجمل، وهذا ما يدفع الى مزيد من العمل الجاد لتقديم الافضل للمواطن والاستجابة السريعة لمطالباته، اما في الديمقراطيات الناشئة وتلك التي تعتمد على النظام السياسي المستورد من الخارج، فانها تقوم بالهجوم على التظاهرة باعتبارها صورة تزيحها عن المشهد، لا تندمج معها بل تستبعدها حتى لا تكشف مواطن الخلل والفساد.

اعتمدت الحكومة العراقية على الوصفة الثانية وهي التي تناسبها لانها حكومة ديمقراطية مستوردة ناقصة المواصفات، وبدأت بالتعامل مع التظاهرات باعتبارها صورة مضادة لها، وانها مصدر تهديد يجب التخلص منه، واسهل طريقة للتعامل معها هو التقليل من نقاوة صورة التظاهرات، بمعنى ان الحكومة لم تلغي الصورة كاملة من المشهد لانها من القوة بمكان جعلها تحتل مساحة كبيرة في الساحة، لكن يمكن التلاعب بنقاوة الصورة، كيف ذلك؟

تم الاعتراف بالتظاهرات كقوة فاعلة ومحركة للمشهد السياسي، ووضعت معه علامات الاستدراك، والاستثناء، على سبيل المثال: تقول الحكومة ان التظاهرات من حق المواطن لكن هناك مندسين. التظاهرات سلمية لكننا نتعامل مع نوع من العنف غير المبرر. هناك من يستغل حقوق المواطنين لتحقيق اهداف خاصة. لا ينبغي للمواطن ان يفعل كذا لان البعض يفعل كذا. ينبغي ان نتوقف عن كذا لان الدولة الفلانية تتمنى ان يحدث كذا.

كل هذه العبارات لم تكن لتشكل صورة اندماج بين صورتين، بل وسعت من الهوة وساهمت في بناء جدار بينهما، يكبر يوما بعد يوم، لا سيما بعد دخول اطراف عدة لها تقوم مصالحها على التقليل من حجم الصورة العامة للتظاهرات اولاً، والتشويه الدائم لها ثانياً، اما الجهات الداعمة للتظاهر فلا تخلو من اخطاء في التعامل، اذ ان المبالغة هي السمة العامة لوسائل الاعلام الداعمة للتظاهرات، هناك مبالغة في حجم التظاهرات، وهناك مبالغة في تصوير الجانب السلمي للتظاهرات، وهناك مبالغة بالقاء اللوم على الحكومة رغم الاخطاء الكارثية لبعض التظاهرات الشعبية، وهذه حالة طبيعية لان الاوضاع العامة الان هي عبارة عن حرب للصور بين طرفين اساسيين، طرف مع الحكومة وطرف مع التظاهرات، وهم بالضد من بعضهما.

وفي الخلاصة لا يمكن القاء اللوم على المتظاهرين في حرب الصور، لانهم اصحاب حق، وان الحكومة من مسؤوليتها تطبيق قواعد العدالة لصالحهم، اما ان تعاملهم كمخربين يجب الانتصار عليهم، فهذا قد يكبح التظاهرات وقد يبدد المطالب وقد يتم تخدير المتظاهرين لكن كل تلك الافعال لا تحقق المصلحة الوطنية العليا لان البلد يعاني من الفساد والانهيار والواجب الاستفادة من فرصة التظاهرات للضغط على الفاسدين وليس حمايتهم بحجة الحفاظ على اخر حلقة من هيكل الدولة.

اضف تعليق