q
لا يقيم الإنسان علاقة مباشرة بوجود الأشياء وليس صحيحا أن العالم المحيط به قد أعطي له في صورة دالة وفي شكل منظم ووفق تجربة معروفة وإنما كانت مهمة الفلسفة التي أسسها منذ البداية من حيث هي نظرية عامة في دلالات الوجود استنطاق كلام الأشياء وتنظيم الموجودات...

" الإنسان يقيم في العالم وفي ذهنه تصور عن عالم آخر"

لا يقيم الإنسان علاقة مباشرة بوجود الأشياء وليس صحيحا أن العالم المحيط به قد أعطي له في صورة دالة وفي شكل منظم ووفق تجربة معروفة وإنما كانت مهمة الفلسفة التي أسسها منذ البداية من حيث هي نظرية عامة في دلالات الوجود استنطاق كلام الأشياء وتنظيم الموجودات المتنوعة وفق جملة من المقولات وتصنيفها على ضوء أشكال تعبيرية تيسر عملية الانتقال من العالم الطبيعي المعطى إلى عالم الخطاب المفترض أو المبني رمزيا ضمن إحالات إلى مرجعيات ضمن وحدات معنوية.

بيد أن السؤال عن الوجود ضمن العالم لعدد من الخصائص النمطية وشروط هوية العناصر الفردية لا يمكن الحسم فيها عن طريق التحليل العلمي فحسب وإنما تتوقف على الاختيارات الفلسفية والميتافيزيقية التي يتكيف معها هذا التحليل وتطرح على صعيد وجود العالم من عدمه وطبيعة هذا الوجود وأحواله.

فما العالم؟ ما العلاقة بين الذات والعالم؟ كيف يمكن تأهيل الذات من أجل الوجود في العالم؟ وما الفرق بين العالم الذاتي والعالم الموضوعي وبين العالم الفيزيائي والعالم المثالي؟ وهل ينتمي العالم إلى مدار الإنية أم إلى مجال الغيرية؟ ولماذا يفترض التخلص من العالم الزائف إلى العالم الحقيقي؟ وهل نحن إزاء عالم في صيغة المفرد أم عوالم متعددة؟ وماهي تبعات الإقرار بوجود عالم في صيغة الجمع؟ وماذا يعمل الإنسان أمام هذه الوضعية؟ هل يكفي باختيار واحدة من العوالم الزائفة أم يسهم في إعادة تشكيل عالم مشترك؟ وكيف السبيل إلى تجاوز بداهة الموقف الطبيعي وإعداد المرء للاندراج في العالم الإنساني؟

يتناول الموضوع مشكل كيفية وجود العالم ومعناه بالنسبة إلى الذات ويتراوح بين النفي والإثبات وبين القول بأنه مجرد وهم ذاتي ويرفض وجوده المستقل وبين الإقرار بالوجود الخارجي والواقع المادي.

الإشكالية: هل العالم معطى موضوعي وجد قبل الذات أم هو معطى ذاتي أضفى عليه الإنسان المعنى؟

يمكن الانطلاق من صعوبة فهم ظاهرة العالم في الفلسفة: يقع الإنسان العامي في الخلط بين العالِم le savant والعالَمle monde. غموض مفهوم العالم وتعدد معانيه: الكون، الطبيعة، الوجود. إن الإقرار بالعلاقة الإشكالية بين الإنسان والعالم تكمن في التفطن الى صعوبة وجود العالم بالنسبة إلى الإنسان وصعوبة وجود الإنسان في العالم. وبالتالي يمكن تقسيم الجوهر إلى لحظتين منطقيتين:

العالم الموضوعي: الوجود المستقل للعالم عن الإنسان، المادة، الكوسموس، الطبيعة، عالم الأشياء.

العالم الذاتي: لا معنى للعالم دون وجود الإنسان، عالم الأشخاص، العالم المشترك.

غير أن عبارة عالم مستقل عن الذات تفهم من خلال وجود العالم قبل الذات أو وجوده خارج الذات. كما تفهم عبارة عالم هو مجرد وهم: العالم هو فكرة في العقل، العالم هو حقيقة ذاتية داخل الانسان. في الواقع تتراوح المرجعيات الفلسفية بين القول بوجود العالم المادي بشكل مستقل عن الذات والقول بتعدد العوالم ووجود مجموعة من العوالم الممكنة الإنسان هو الذي يمنحها المعنى والدلالة والمقصد.

كما يمكن الاشتغال على المرجعية القديمة: أفلاطون وأرسطو والتقابل بينهما: عالم مثالي وعالم طبيعي. علاوة على ذلك يتم استدعاء مرجعية حديثة: ديكارت ولايبنتز وكانط والتقابل بين عالم رياضي وعالم مادي، ويقع التعويل بشكل مستفيض على مرجعية معاصرة: المقاربة الوضعية والفنومينولوجيا: هوسرل وهيدجر ومرلوبونتي. فما شأن الذات بالعالم؟ وما معنى حضورها فيه؟

عندما طرح سؤال على أحد الفلاسفة من أين أنت؟ كانت إجابته صادمة: أنا من العالم. ربما كان يقصد بذلك أن هويته ليست محددة بعنصر معين وبموضوع خاص وإنما تنتمي إلى الكلي وبالتالي هو ينحدر من البشرية بصفة عامة ويرفض اختزال مصدره في معطى خاص وبعد متعين. لكن كيف يعبر واحد عن حقيقة الكثير؟ وأليس من المفارقة انتساب الجزئي الذي يتصف بالتخصيص إلى الكلي على جهة التعميم؟

من جهة ثانية جاء في الإنجيل أن السيد المسيح كان يردد: "مملكتي ليست من هذا العالم". لعله يشير إلى ضرورة تجاوز الوضع الحالي الذي يتصف بالفساد والظلم والشر والتطلع إلى التغيير من أجل إقامة مملكة المحبة والعدل والخير. كما يمكن أن يكون يلمح إلى زيف هذا العالم وجود عالم آخر هو عالم أبدي. فما الداعي إلى الإقلاع عن هذا العالم والبحث عن عالم مختلف؟ وأين تكمن بالتحديد مظاهر الزيف فيه؟

في مستوى ثالث لا يتعلق مفهوم العالم بمفرد بل بجمع ولذلك يفترض وجود عالمين: ذاتي – موضوعي، مادي – معنوي. وربما يطرح أكثر من عالم أو عوالم لأن هذه المقولة تستعمل للوصف والإضافة ويساهم في التسمية ويتمتع بالقدرة التوليدية للمعاني. يجدر الاهتداء بقول فتغنشتاين في المصنف المنطقي الفلسفي الذي يعلن أن "حدود عالمي هو حدود لغتي"، فهل يتعلق الأمر هنا بعالم واحد أم بالعديد من العوالم؟

من جهة رابعة ينطلق الموقف الطبيعي من عالم كل يوم بوصفه ماهو مألوف ومعتاد ومشترك وبديهي ويبني عليه معظم التصورات والحقائق والاعتبارات ولكن الوعي التاريخي يكتشف لغز العالم وغموضه ويتفطن التفكير الفلسفي إلى غفلة الإنسان وإهماله لنفسه ونسيان العالم الحقيقي والاهتمام بالعالم الزائف.

من ناحية خامسة يوجد التباس لغوي بين عالِم savant وعالَم monde، الأول يشير إلى منتج المعرفة ومؤسس العلم والثاني يدل على الكل والمجموع والكون ويرتبط بالناس والدنيا والمعمور من الأرض. فما الذي يحدث على المستوى الإشكالي والدلالي عندما تتغير حركة التنقيط للمفردة من الجر إلى النصب؟

"إن هذا العالم، بانتظامه، المتماثل مع ذاته بالنسبة لجميع الكائنات، لم يصفه أحد من الآلهة ولا من الرجال، ولكنه كان أبدا، وهو كائن، وسيكون، نارا حية أبدا تشتعل باعتدال وتنطفي باعتدال" - هرقليطس، مقتطفات، ذكره فريدريك نيتشه، كتاب الفلسفة في العصر التراجيدي الإغريقي.-

إن العالم monde من mundus باللاتينية وword بالانجليزية و cosmos بالاغريقية أما في اللغة العربية فنجد ما يلي: اسم عالم وجمعه عوالم وهو على وزن فاعَل الذي يعتبر نادر جدا وغير مستعمل. في اللسان الفرنسي كلمة العالم le monde لا تعني موجودا بسيطا بل الكل المستقل، والكل الحي وليس مجرد جسم، وبعبارة أخرى قابلة الأجزاء التي يتكون منها الكل، أي نمط الذي توجد وفقه الموجودات. بهذا المعنى يدل العالم على: كلية الموجودات بالنظر إلى الله، ومجموعة من الأشياء المتناهية التي توجد بشكل موحد، إذا كان العالم يتضمن سلسلة مترابطة من الوقائع فإن الطبيعة تتشكل من نسق من القوانين.

كما يشير العالم عند القدماء إلى الكون Univers الذي يضم مجموعة من الكائنات المترابطة في الزمان بشكل تعاقبي وفي المكان بصورة تتابعية. وبهذا المعنى يمثل العالم الحصيلة التي ينتهي إليها التأليف الأوسع بين الكائنات ويظل في تعارض مع الكون المطلق. توجد مقابلة وتباين بين العالم المادي ومجموع البشر. "إن التأليف لا ينتهي إلا عند الكل الذي لم يعد جزء أي عند عالم"، كانط في كتاب المنطق، " يطلق المرء تسمية العالم ليس فقط على هذا الكون الذي خلقه الله... بل على سكان العالم" أوغسطين. ويصرح أيضا " كل من يحبوا العالم يطلق عليهم تسمية العالم" وكل ما يهم البشر يفيد هنا كل ما يهم كل واحد منهم. في نهاية المطاف يمثل العالم المفهوم الأنطولوجي الوجودي للعالمية عند هيدجر بصورة يتعارض فيها الأنطولوجي مع الأنطي ومع الوجودي بالنظر إلى الفرق البدئي بين الكينونة والكائنات.

- مصطلح عالم يدل بصفة عامة على الوحدة المنظمة للموجودات المتكاثرة والمتعددة بشكل ما.

- مصطلح عالم بصفة دقيقة يطلق على النظام الداخلي الذي يمنح الأشياء المتباعدة وحدة وانسجام.

- العالم إطار أوسع وأشمل من الأشياء التي يحويها مثل الحقل والميدان والمجال والفضاء

- العالم هو الخلق والإنسان والناس والجموع وكذلك الغير والآخرين والهم.

- العالم هو الدنيا والمعمورة والمأهول من الأرض.

- العالم هو العولمة التي تشمل تخوم الكوكب وعالم الغد والكواكب الأخرى.

لقد جاء في معجم لالاند ما يلي:

1- العالم من جهة أولية هو النسق المنظم بشكل جيد الذي يشكل الأرض والكواكب وبعد ذلك تأتي الأنساق الأخرى المماثلة التي يمكن أن توجد خارج المجال الذي ينتمي إليه هذا النسق – لوكريس

2- العالم هو الأرض وبالتحديد القسم المركزي من كل الكائنات التي توجد تحت القمر والتقسيمات الجغرافية من القارات والمحيطات والبحار والجزر والمضيقات والجبال والأنهار والصحاري والسهول والأودية.

3- العالم هو مجموع كل ماهو موجود في الكون أي واحد من الأنساق المكتملة الذي يمكن أن يستقبل الوجود والذي تحقق فيه ذلك بالفعل وبشكل ملموس.

4- مجموع واسع من الأشياء من نفس النوع مثل عالم الأفكار والعالم الفيزيائي والعالم الأخلاقي والعالم الحسي والعالم العقلي.

5- العالم هو الحياة الاجتماعية للبشر بالتعارض مع الحياة الدينية وبالتالي هو الجموع والحشود والجمهور والعلاقات والحياة المهنية.

6- العالم هو طبقة اجتماعية تتشكل من اجتماع عدد من الناس توجد بينهم روابط عضوية مثل عالم الأعمال وعالم المال وعالم الثقافة وعالم الفن وعالم الفكر وعالم الأدب.

لقد تم استعمال مصطلح العالم في العديد من السياقات المتفرقة من أجل الإشارة بطريقة أو بأخرى إلى كلية انتماء ولهذا أمكن الحديث عن عالم إغريقي وعالم عصر النهضة للإشارة إلى مجموعات ثقافية نوعية كانت موجودة في الماضي التاريخي للحضارة الغربية واستمرت إلى اليوم من خلال آثارها.

بعد ذلك هناك معنى مجاور لهذا المصطلح عندما تستعمل بعض العبارات على غرار عالم الرياضيات وعالم الموسيقى. يتعلق الأمر هنا بالكليات الثقافية ولكن بدل اعتبار مجموع التعبيرات الثقافية الخاصة بحقبة ما يتم تثمين جملة المسارات والمواضيع التي تجمع وفق فكرة ناظمة واحدة ورؤية نسقية موحدة. إضافة إلى ذلك يمكن العودة إلى مصطلح العالم من أجل الإشارة إلى مقولة من الأشياء تمتلك نمط وجود مميز خاص بها وفي هذا تسمح بالإشارة إلى عالم الحيوان وعالم النبات وعالم التغذية وعالم الصحة.

في نهاية المطاف يمكن إسناد العالم معنى عام عندما يتم استعماله من أجل الإشارة سواء إلى مجموع الأشياء الطبيعية وجملة الوقائع المادية، وسواء إلى نسق الأحداث التاريخية وكلية الحقائق البشرية. هكذا يظل مصطلح العالم في كل واحدة من دلالاته الجزئية لا يفيد فقط مجرد المجموع الذي يتكون من الأشياء والمواضيع والخصائص والتصرفات وإنما أيضا يتضمن النظام الذي ينحت الانتماء الكلي ويعبر عن نمط من الفهم الموحد لا يتوقف عند الجزئية المعطاة ولا على النقاط والخصائص المشتركة ولا على الروابط المتينة بينها بل يقوم بالتقاط كل الأوجه الخاصة من جهة المبدأ الذي يربطها في كليتها في حضن وسط يحويها كلها برمتها ويضم بعضها إلى البعض الآخر.

هكذا يوجد وراء هذه الاستعمالات المتعددة والمتنوعة والمختلفة والكثيرة لمصطلح العالم نواة من الدلالة المشتركة التي يجدر التعبير عنها بواسطة مفهوم مستقل. فماهو الحد الجامع المانع لهذه المفردة الفلسفية اللامعة في الحقبة المعاصرة: العالَم؟ وكيف يعيد الإنسان تأهيل أسلوب وجوده في العالم لكي يتمكن من اكتساب جدارة الإقامة وجدوى التعمير؟ ألا يجدر به أن يتوجه نحو تغييره بدل الاكتفاء بتأويله؟ أليس الرضا بعالم بائس هو وعي مزيف بالعالم؟

* كاتب فلسفي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق