q
توماس هوبز يعد من بين أبرز الفلاسفة الذين فهمت أفكارهم وتصوراتهم بشكل مغاير عما أرادوه وبينوه مما أحدث لغطًا كبيرًا حوله؛ إذ دائمًا ما أُلصقت به فكرة التنظير للاستبداد، وهي خاطئة، وسنأتي على توضيح هذا الخطأ تباعًا، فإذا ما سألنا عنه غالب المختصين في الفلسفة...

أحيانًا، يخطئ قارئ، وباحث ما في فهم طروحات فيلسوف محدد، وهذا الفهم الخاطئ يؤدي إلى إنتاج طروحات خاطئة ناتجة عن سوء قراءة أفكار الفيلسوف المقصود بالدراسة، ولعلّ (توماس هوبز) يعد من بين أبرز الفلاسفة الذين فهمت أفكارهم وتصوراتهم بشكل مغاير عما أرادوه وبينوه مما أحدث لغطًا كبيرًا حوله؛ إذ دائمًا ما أُلصقت به فكرة التنظير للاستبداد، وهي خاطئة، وسنأتي على توضيح هذا الخطأ تباعًا، فإذا ما سألنا عنه غالب المختصين في الفلسفة، أو العلوم السياسية، أو علم الاجتماع؛ سيجيبك ببساطة إنه فيلسوف الاستبداد، والسلطة المطلقة!، وفي مقالنا هذا سنحاول قدر الإمكان شرح فكرة، ومعنى "السلطة المطلقة" لديه، فضلًا عن ما أسماها "حالة الطبيعة ما قبل الدولة"، التي تطرق إليها في أبرز كتبه، وأهمها (الليفاثان)، الذين أصدره سنة (1651م).

ولد (توماس هوبز)، سنة (1588م) في إنجلترا، وتوفي سنة (1679م)، وشاءت الأقدار أن تكون الفترة التي عاصرها، مليئة بالأحداث السياسية الجسام التي مرت بها بلاده، لعل أبرزها الصراع ما بين الملك والبرلمان، وكذلك الكنيسة التي أدت إلى دخولها في نفق الحرب الأهلية، وانعدام الاستقرار وانتشار الفوضى، وكان ينظر إلى هذا الحال من منظار الفيلسوف الذي جلّ همّه العمل على إيجاد الصيغة المناسبة التي تكفل إنهاء ما تمر به بلاده من فوضى، وانعدامًا لسلطة الدولة، والتي أطلق عليها تسمية (حالة الطبيعة)، وعنى منها أن الإنسان في هذه الحالة وهي ما قبل الدولة، هو عدوٌ لأخيه الإنسان، بمعنى أدق وكمثال توضيحي: إن فردًا معينًا لديه خصومة مع فردٍ آخرٍ سيلجأ إلى قتله ربما دون أدنا رادع، أو أي نوع من الأذى الذي قد يسببه له عدا القتل، بالتالي في ظل هذه البيئة؛ سيكون الكل متربصٌ بالكل، والكل سيخشى الكل؛ مما يؤدي إلى سيادة الخوف، والفوضى بدلًا عن الأمن، والاستقرار، وسيادة القانون.

هكذا، وبعد أن يصل الناس إلى مرحلة خطيرة من اللاأمن، واللااستقرار، وعدم ضمانهم تحقيق أبسط مصالحهم، في ظل سيادة شريعة الغاب، والقوي يأكل الضعيف، يرى (توماس هوبز): أنهم وبعد أن يأخذ منهم الخوف، والتعب، والإرهاق، والإنهاك مأخذًا، سيصلون إلى مرحلة ضرورة التوافق فيما بينهم حول صيغة معينة تكفل عيشهم المشترك، وأمنهم الجماعي هذه الصيغة أطلق عليها تسمية (العقد الاجتماعي)، الذي بمقتضاه يتنازل المحكومون عن حرياتهم كافة للحاكم (السلطة المطلقة)، ذلك في سبيل تمكين الأمن والاستقرار، وإنهاء حالة الخوف، والفوضى السائدة في مرحلة ما قبل الدولة (حالة الطبيعة)، ويوضح أن الحاكم في مثل هذه الحالة ليس ملزمًا بأية تعهدات اتجاه من يحكمهم، فهم طواعية، وبمحض إرادتهم تنازلوا عن حرياتهم، وحقوقهم لمن يحكمهم في سبيل ضمان أمنهم، ومصالحهم وبذا يمثل هذا العقد بين الجانبين انتقال من حالة الطبيعة، والحرية المطلقة، إلى مرحلة قيام سلطة الدولة، والقانون المدني المقيد للحريات الطبيعية.

بعد أن أوضحنا سالفًا، ما تعنيه فكرة حالة الطبيعة، والعقد الاجتماعي في فكر (توماس هوبز)؛ نصل إلى ما يعد من وجهة نظرنا أهم ما أثار الإشكال في فلسفته؛ ونقصد هنا حديثه عن "السلطة المطلقة"، إذ فهمها الكثير كما أشرنا سابقًا على إنها تعني حكم الاستبداد، والطغيان وكثيرًا ما تم ربطه بهما، إلّا أنَّ القارئ لكتابه الليفاثان سيجد عكس ذلك تمامًا، إذ هو لم يقصد الاستبداد، وحكم الفرد عند حديثه عن هذه الجزئية؛ وإنما قصد عبر طرحها، سلطة الدولة المطلقة، وقوتها الشاملة حتى أنه قد أكدّ في كتابه إنها قد يمسكها حاكم فرد وهنا يسمى حكمًا ملكيًا، أو قد تسمكها نخبة وهنا يسمى الحكم حكمًا أرستقراطيًا، أو يكون تحت حكم الشعب أي حكمًا ديمقراطيًا وفي ذلك يقول ((فأي شخص يأمر ويؤسس السياسة بصفته المؤسس الأول لدولة معينة أكان النظام (ملكيًا، أرستقراطيًا، ديمقراطيًا) يجب بالضرورة أن يتمتع بالسلطة المطلقة على الشعب طوال مدة عمله)) (1).

وكذلك يقول ((بينما رضا البشر ناتجٌ عن اتفاقية، وهو أملٌ مصطنع، لا عجب بالتالي أن يكون المطلوب شيئًا آخرًا إلى جانب هذه الاتفاقية بغية جعل رضاهم مستقرًا ومستمرًا هذا الشيء هو: السلطة المشتركة التي تؤمن انضباطهم وتوجههم نحو الخير العام))، ويضيف ((أما الوسيلة الوحيدة لإنشاء هذه السلطة المشتركة، القادرة على الدفاع عن البشر في وجه احتياجات الغرباء، والإساءات المرتكبة بحق بعضهم، وحمايتهم حتى يتمكنوا من الاكتفاء والشعور بالرضا بواسطة صناعتهم الخاصة وثمار الأرض، فتكمن في جمع كل قوتهم وقدرتهم باتجاه شخصًا أو مجموعة أشخاص، تستطيع بغالبية الأصوات، حصر إراداتهم كافة في إرادة واحدة؛ مما يعني: تعيين شخص، أو مجموعة أشخاص بغية حمل شخصهم)) (2).

لذلك كان جل همّه ترسيخ حكم، وسلطان الدولة، وفرض هيمنتها، وهبيتها دون المساس بها من قبل أيّة شخصية، أو فئة كانت كي لا تعم الفوضى بالتالي تنهار الدولة، ويرجع المجتمع إلى ما كان عليه أي حالة الطبيعة، وإذا ما رجعنا إلى الدول الغربية نجد أن جلها، بالضرورة ذات أنظمة سياسية مطلقة ليست بمعناها الاستبدادي؛ وإنما بمعنى مدى قوة قوانينها، ومدى التزام المحكومين بها، ومدى قوة مؤسسات الدولة، فهي مطلقة من ناحية السيطرة على الأوضاع، وتأمين الناس أيًّا كان نوع النظام (ملكيًا، أرستقراطيًا، ديمقراطيًا)، وهذا هو جوهر ما يريده (توماس هوبز) من فكرة (السلطة المطلقة).

.......................................
(1): توماس هوبز، الليفاثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حرب- بشرى صعب، مراجعة وتقديم: رضوان السيد، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث "كلمة"، أبو ظبي، 2014، ص461.
(2): المصدر نفسه، ص179.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق