q
يبدأ التفكير والتأمل في كل ما يثير الإنسان في رغبته الواعية واللاواعية لإزالة أشياء من اللبس والغموض عن عالم معالمه غير واضحة. ولا يملك الكائن الإنساني تصور عنه في ظل انغماس الذات في عالم الأشياء وليس في عالم الأفكار أو بسبب حدود العقل في استنباط...

يبدأ التفكير والتأمل في كل ما يثير الإنسان في رغبته الواعية واللاواعية لإزالة أشياء من اللبس والغموض عن عالم معالمه غير واضحة. ولا يملك الكائن الإنساني تصور عنه في ظل انغماس الذات في عالم الأشياء وليس في عالم الأفكار أو بسبب حدود العقل في استنباط كل ما هو ممكن.

من هنا ليس كل الناس على درجة واحدة من الوعي والتفكير بسبب انحدار الذات في سلم المعرفة وعلوها كذلك. الجدل الصاعد والنازل في رأي أفلاطون. والجدل عندما تتحول الأفكار من عالم الذات نحو عالم الموضوعات الخارجية وتلك الوحدة من الصراع للأضداد. يتجه الفكر نحو التعين والتشكل ويخلق لذاته نقائض جديدة. وتنمو الأفكار في ظل المتناقضات. عالم الفيلسوف هيجل في تبلور الفكرة وما تحمله من بدور ونمو يتعقل العقل الأشياء وتتزايد شرارة الأفكار وتتطاير ويتمكن العقل من جمعها في وحدة متجانسة ومركبة. التفكير تفاعل الذات وذاتها وتفاعل مع الموضوعات الخارجية.

في التفكير الداخلي مونولوج مستمر بدون انقطاع. يتصل التفكير بالعوالم الخارجي ويرتبط بالخيال والتخيلات. تتكدس الثروة الذهنية بالصور والمعاني ويتجرد الذهن في الباطن وعمق المشاعر في محاولة لاستنباط ما في الأعماق من أفكار خالصة أو من تلك الأفكار المترسبة من مراحل معينة بفعل التجارب الذاتية من مرحل عمرية مختلفة. قابلة للتذكر والاستحضار بالذاكرة. أفكار عميقة في الذات وسبر أغوار النفس لها أهمية في تجديد التفكير وفي منح الذات فسحة للتأمل والمقارنة والاستنتاج.

في العودة للذات يعني بداية التفلسف والعودة لذواتنا وما تحمله من معارف. سقراط من طينة الفلاسفة الذين حاولوا تكريس الفكرة في عمق دلالتها وفي عملية إجرائية عند القول "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك" المعرفة موجودة في النفس والإنسان حاملها والذي لا يتعلم كيفية الولوج إلى العالم الفسيح والرحب.

عالم الذات يجب أن يسترشد بمعلم يقوده للفضيلة والحكمة. معلم متمرس في التفكير ومحاورا شرسا في تفنيد المغالطات. والتدرج بالمتعلم نحو الحقيقة في عملية استنباطها واستخراجها. ويستعين هنا بالطريقة السقراطية في الحوار والتهكم وفن التوليد. منطق التفلسف والعودة للذات في السؤال والتساؤل عن الماهيات والجواهر وعدم الاكتفاء بالمألوف من الأشياء غير البديهية. يوضح أفلاطون الفكرة أكثر على لسان المعلم سقراط في القول "إن المعرفة تذكر والجهل نسيان" والصعود إلى الأعلى يوازيه آليات في التفلسف والانتقال من كهوف الضلال والعتمة في الثبات على الحواس والمحسوسات من عالم الظن والمعرفة المزيفة نحو عالم المثل والمعقولات. الكائن القادر في الفعل هو الفيلسوف في يقظة الوعي والتجاوز للمحسوس ومن ثمة الانطلاق نحو عالم الكمال والحقائق الثابتة. في العودة للذات منطلق التفكير السليم للتأمل في الحياة والمصير وكل ما يمتلك الإنسان من أقوال في معترك الحياة الاجتماعية. ما في الفكر من قدرات ذاتية وعلامات ذهنية في تقليب الأشياء في دقتها وصحتها. يحتوي العقل على مبادئ خالصة. فطرية ومتأصلة في الإنسان وقبلية سابقة على التجربة. ويميل الفهم عند الإنسان كما في فلسفة كانط النقدية لإضفاء الصور على الأشياء العابرة للذهن من المعطيات الخارجية ومن قبل الحواس والتجربة واحتكاك الذات بالآخر والعالم الخارجي. تجربة الإنسان في العودة للذات مبنية على السؤال الذي يعتبر في الأصل جوهر الفلسفة. يصاغ السؤال في إمكانية بلورة معرفة يقينية عن الذات وقبل ذلك الفيلسوف مطالب أن يفرغ الذات أو يعلق المعرفة الجاهزة إلى حين بنائها من جديد وبالتالي التحول والانتقال من الذات إلى الطبيعة.

تسلك الفلسفة الحديثة في بناء معرفة صارمة ويقينية في العودة للذات خصوصا في الفلسفة العقلانية الديكارتية. والعودة تمليها دواعي تأصيل المعرفة والشك فيها من جديد. من يستدل يمكن أن يصيب. ومن يستدل كذلك يمكن أن يتعرض للخطأ. فالعقل الإنساني في اندفاعه نحو المعرفة يستخلص النتائج في قدرته نحو وضع الأقواس على الأشياء واعتبار كل المعارف ليست واضحة أو بديهية. لا حل إلا في الاستعانة بالشك المنهجي والتدرج من القضايا البسيطة إلى القضايا المعقدة. الشك الذي يستند للمنهج الرياضي الاستنباطي يميل للتدرج والتسلسل. شك مرحلي وتصاعدي ومنتج. علامة اكبر في الإقرار بالتفكير والوجود. وعلامة دالة من علامات التفكير والقدرات الذهنية. في العودة للذات إبراز للذات الديكارتية وميل نحو إصباغ المعرفة الواردة من الذات في فصل تام بين الجوهر المادي "الجسد " صفته المميزة الامتداد. وفي الجوهر اللامادي "النفس " صفتها الأساسية التفكير أي التمييز بين الجوهر والعرض وبالتالي كل انقطاع عن التفكير فهو انقطاع عن الوجود.

فمن الصعب الشك والنفاد إلى حقيقة أكثر وضوحا وبداهة من تلك الحقيقة الواضحة التي تجزم في فعل التفلسف من جهة. ومرة أخرى في قيمة التأسيس للمعرفة من الذات. حصيلة المنهج الديكارتي الإقرار من البداية بالحاجة في العودة للذات. والربط بين المعرفة والشك المنهجي وفحص ما بالذات من فكر ذو طبيعة روحية.الجواهر والماهيات في مقابل الأعراض قضية مهمة في الإعلاء من قيمة الكائن الإنساني والقول في معيار الذات الديكارتية العاقلة والمفكرة والواعية. من ديكارت والتفكير في الذات إلى باقي أنماط التفكر الفلسفي في عودة صريحة نحو الذات ونقد لأسس المعرفة الثابتة والزيادة في الأفكار عبر التفنيد وبناء عالم جديد من الفكر المركب ومن الفكر الذي يعتبر العقل قوة لامتناهية. ومن تصور العالم كإرادة وتمثل. فوق إرادة العقل تطفو إرادة الحياة. ويتجلى البعد الذاتي في الإبداع وخلف فلسفة أخرى على مقياس ما يروم إليه الفيلسوف في بناء نسقه الفلسفي. منطلق التفكير في الذات الحاملة للبعد القيمي والمعرفي ولترسبات المعرفة السابقة وما هو عميق في ذواتنا يستدعي أدوات في الاستنباط واستبطان ما بداخل الإنسان من مشاعر وعواطف فياضة وأحاسيس متدفقة لا توصف باللغة العادية بسبب الانسياب المستمر للشعور.

رغم الميل الشديد للفكر المعاصر في تجاوز الميتافيزيقا والأنساق المغلقة والتهليل لمرحلة ما بعد الحداثة أو عصر التفكيك والخلخلة. يعود الفكر مرة أخرى للتفلسف وطرح تساؤلات قديمة في صيغة جديدة عن ماهية الفلسفة والحقيقة والوجود والموجود وعلاقة الفلسفة بالعلم والمنطق والأخلاق. التفلسف هنا يبدأ من الذات التي حملت مجموعة من المعارف الكبرى وشكلت المعارف والمباحث الكبرى ميزة أساسية في الفلسفة والتفلسف. يعود الفضل في النمط الجديد للتفلسف المعاصر بالدرجة الأولى للفيلسوف نيتشه. وبصيغة أخرى إلى مستجدات العلم المعاصر والثورات العلمية واستقلالية العلوم الإنسانية وحاجة الإنسان للفهم بعيدا عن الأنساق الثابتة.

في قراءة هايدغر للفكر المعاصر وإرهاصات الزمن الآني يكرر فكرة نسيان الوجود والاهتمام بالموجود. ويربط الوجود بالتأسيس وإعادة النظر في التفكير بصفة عامة، هناك شيء من الاغتراب وضياع الإنسان في اللحظة المعاصرة من الرتابة والروتين وهيمنة التقنية وسيادة الموقف التقني. وغياب كامل للتفكير في الوجود الإنساني الأصيل في النفاد للحقيقة وانكشافها من جديد. الذاتية التي يريد أن يعيد تأسيسها الفيلسوف ليست على شاكلة الذاتية الديكارتية لكن بالعودة إلى الزمن السابق على سقراط. زمن فلاسفة الوجود هيراقليد وبارمنيد. هؤلاء فلاسفة بالمعنى الحقيقي الذي أزالوا الغموض في فهمهم للوجود من خلال فكرهم الذي كان وليد التأمل بالكلمة الشعرية التي تفيض حكمة وعذوبة.

في منطق التفلسف يعود الإنسان للوراء. لا للتفكير في القضايا التي كانت تشغل بال الحكماء في اليونان بل لاستلهام وسائل وأدوات التفكير وباللغة الحقيقية. فالفيلسوف في حالة من الملل والضجر من حضارة اليوم وعالم التقنية والصورة. يهرب تاركا الحضارة والعمران نحو العيش بجوار الفلاحين وفي عالم من العزلة والخلوة بالذات. يعني الانهمام بالذات والعودة لأحضان الحياة الداخلية في سفر عميق نحو الحياة البسيطة الخالية من التفكير المعقد. ونحو المجتمع الميكانيكي البسيط بعيدا عن علاقات المنفعة وعالم المصالح وما أشبه ذلك من دوافع يلم بها الفيلسوف. وفي منطق التفلسف عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو العودة للذات للانهمام بعد عملية تشخيص للذات في قلب عالم مليء بالرموز وشبكة معقدة من الدلالات والمصالح والأهواء المتشابكة والمعقدة. انهمام بالذات لا يعني التخلي نهائيا عن العالم بل العودة للذات من جديد في تحليل الجانب الابستيمي منها والغوص في أعماقها.

فالخطاب الذي استأثر باهتمام الفيلسوف علاقة المعرفة بالسلطة والخطاب الممارس في الغرب وأشكال المنع والنبذ في قول الحقيقة وتغلغل خطاب السلطة في دواليب الحياة من العلم للسياسة والمجتمع. يعاد إنتاج الخطاب وتوزيعه واستهلاكه. تلك الجروح التي أصابت الذات الغربية بفضل تأويلات للمعرفة والأنساق وأنماط الإنتاج الاقتصادي. من فلاسفة التأويل للعالم والأشياء هناك نيتشه وفرويد وكارل ماركس. منطق التفلسف في الفكر المعاصر العودة للذات للنقد والتفكيك وإعادة البناء. العودة من اجل التفلسف كما قال ادموند هوسرل والاهتمام بالماهيات والنفاد إلى صلب الأشياء في قصدية وارتباط متين بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. معرفة الأشياء بدراستها ونقدها. وطرح آليات بديلة ومناهج أخرى في الدراسة واعتبار الفلسفة تشخيص عل غرار الفحص الطبي في مرحلة تتطلب أن يكون الفيلسوف طبيب حضارة يجمع مواصفات فكرية وعلمية في معالجة أزمة الحضارة الغربية.

لابد من القول والاعتراف أن الأصل في الفلسفة هي الدهشة. الدافع الأكثر في التفلسف وإزالة الغموض والغرابة عن العالم. ومن الدوافع حيرة وقلق الإنسان من المصير والحياة. ومن عظمة الوجود وهذا الغموض الذي يلف الأشياء في قلق وجودي لا ينتهي من زمانية الكائن الإنساني ككائن محدود في الزمان والمكان. والعالم الذي تتصاعد فيه الأزمات وينذر بالأفول والانحطاط للقيم الإنسانية النبيلة. لا بد من التفلسف بآليات الفلسفة وإزالة اللبس عن الأشياء التي تبدو غامضة. فضول الإنسان ودافع الحاجة والمعرفة من الأسباب التي دفعته للتفكير عميقا في الوجود والطبيعة. فلما أبدع اليونان منطق التفلسف والفلسفة ظلت الضرورة إنسانية وكونية أن يكون التفكير الفلسفي في قلب القضايا من إبداء الفلاسفة لأسئلة كبرى عن الحياة والعالم والإنسان وأزمات العصر.

سقراط الذي امن بالقيم والقواعد الأثينية لازمة المدينة. وفضل عدم الهرب وأرسى فكرة حية في نفوس من يدرس الفلسفة عن مصداقية الأفكار التي يدافع عنها الفيلسوف الحقيقي. المعارف موجودة في النفس وشجاعة الرجل أدرك فيها انفصال النفس عن الجسد وان بالمعرفة والفضيلة. وبالحكمة يحيا الإنسان والعودة للذات ولو مرة واحدة ما يمنح قيمة في إنتاج المعرفة والتحرر من الفكر الدوغمائي. وآليات التفلسف والتفكير في الاستعانة بالسؤال والنفاذ للذات لاستخراج معالم الفكر الأصيل وانتشاله من ترسبات الأفكار القاتلة من البداهة واليقينيات الراسخة والتي تشكل عائقا في شق طريق للفكر العقلاني. مفتاح التفكير العودة للذات وتلك ميزة الفلاسفة وكبار العلماء في التحرر من هيمنة الفكر الثابت.

* احمد شحيمط كاتب من المغرب

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق