q
تحتاج القراءة السياسية لأوضاع العالم في المرحلة الاخيرة او تحديداً بعد انهيار المعسكر الاشتراكي الى رؤيا اوسع عند معالجة ما حل في الكثير من الدول، ويحتاج توصيف شكل الانظمة الى معاينة دقيقة لطبيعة الثقافة السياسية التي سادت بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية العام 1917 وتداعيات هذا الحدث على العالم...

تحتاج القراءة السياسية لأوضاع العالم في المرحلة الاخيرة او تحديداً بعد انهيار المعسكر الاشتراكي الى رؤيا اوسع عند معالجة ما حل في الكثير من الدول، ويحتاج توصيف شكل الانظمة الى معاينة دقيقة لطبيعة الثقافة السياسية التي سادت بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية العام 1917 وتداعيات هذا الحدث على العالم.

لقد صار من المتعارف عليه ولو على مستوى الاعلام ومنذ عشرين عاماً على وجه التحديد ان نسمع بعبارة (الانظمة الدكتاتورية) في اشارة الى النظم الاشتراكية مقابل (الانظمة الديمقراطية) ولو ليس في الاجمال، في اشارة مقابلة الى النظم الرأسمالية!

في هذه الوقفة السريعة سنحاول ان نوضح امراً قد لا يتفق معنا البعض فيه يتمثل بعبارة اجتهدنا في وضعها هي (السقف الدستوري للعالم) وهي عبارة نختزل فيها مفهوم الدستور بوصفه (ابا القوانين) ولا نقصد دستور الدولة بل دستور العالم او بعبارة ادق الشرعية السياسية التي باتت حقيقة سلم بها الملايين من البشر بوصفها نتاجا ثقافيا لجهد انساني مر بمراحل طويلة من تجارب الحكم ليصل الى ما وصل اليه في ثورة اكتوبر وما رافقها وسبقها وتبعها ايضاً من محاولات انعتاق وصولاً لواقع انساني سياسي افضل.

لقد تثبت شكل الدولة الرأسمالية البرلمانية في اوربا بعد قرون من الصراع المرير مع حكم الاستبداد الملكي والكنيسة وما رافق ذلك من مآس وحروب مروعة تسترت تحت مسميات الحرب القومية او الدينية فيما هي تخفي حقيقة كونها صراع طبقات وسلطة واستحواذ وتوسع على حساب الغير، وعلى الرغم من ان النظام (الديمقراطي) البرلماني قد قام فعلاً في معظم الدول الاوربية لاسيما بعد عصر النهضة وقيام الدولة القومية في اوربا الا ان الجوهر ظل واحداً وان تبدي معدنه الفاسد باشكال اخرى، كان ضحاياها اقواما آخرين ليصل اصحاب الفكر اليساري الى حقيقة مفادها ان الخلاص الحقيقي يكمن في انهاء هذا الوضع واقامة (حكومة العدالة الاجتماعية) او الاشتراكية التي نسفت اسس النظام القائم سواء في روسيا ام الصين ام غيرهما لتؤسس لـ(دستور) جديد هو بالضد من الصيغة (الدستورية) لنظام الحكم في اوربا الغربية والولايات المتحدة واليابان وكندا وغيرها التي كان فيها (الدستور) ضامناً لاستمرار نهج هو في نظر الاشتراكيين وتحديداً الشيوعيين فاسداً وغير ملب لطموحات الناس في التحرر الوطني والخلاص الاجتماعي.

هكذا اذن اصبح في عالمنا (دستوران) او دينان متناقضان ومتصارعان ان لم نقل متحاربان ايضاً وكل واحد منهما يقول ان الآخر ليس على شيء يستحق الاحترام!

لقد اقامت الامبراطورية البريطانية عند استعمارها للاراضي التي استولت عليها نظم رأسمالية مرجعها دستور يحفظها ويوجهها ويرسم شكل الدولة، الا ان جوهر هذه النظم كان الاستلاب واللاعدالة فيما كانت الناس تحتاج الى الخبز قبل الديمقراطية والحرية لان الاحساس بالحرية يحتاج الى وعي والوعي لا ينبثق من بين ثنايا الجوع والجهل والظلام بل من وسط الازدهار والخصب الاجتماعي والحياتي وهو ما لم يتحقق للشعوب المقهورة التي وجدت في ثورة اكتوبر وطبيعة النظام هناك انموذجاًَ يحتذى، بعد ان احدثت ما يمكن تسميته بثورة وعي لامست حاجات الفقراء.

في منتصف الاربعينيات انتهت الحرب العالمية الثانية وكانت نهايتها بداية لحقبة مختلفة، حقبة برز فيها (الاتحاد السوفيتي) كلاعب قوي الى جانب اميركا وكان هناك معسكران يقفان وراءهما وكان هناك (دستوران) ينظمان حياة العالم في (شقيه) نقصد الاشتراكي والرأسمالي وكانت دولنا الرازخة تحت دستور (ديمقراطي) ودولة رأسمالية من دون رأسمال تتطلع لحياة افضل وهذا لا يتحقق ما لم يتم الانقضاض على هذا الدستور الذي رآه الكثيرون زائفاً (علم ودستور ومجلس امة.. كل عن المعنى الصحيح محرف) كما يرى الشاعر الرصافي، وكان الانقضاض عليه بعد نحو ثلاثة عشر عاماً تقريباً من وفاة الرصافي بداية ايضاً للتعايش مع (دستور) عالمي آخر رآه كثيرون ومازالوا افضل من الدستور السابق لان له غطاءً دولياً بسعة المعسكر الاشتراكي الذي دمر الدستور الرأسمالي في الدول التي قام فيها، ودمر معه حياة برلمانية لم تعط الناس الخبز الكافي على الرغم من انها كانت تهبهم حرية لم يشعروا بها لانهم كانوا جياعاً!.

يقول الكثيرون جهلاً ان ثورة 14 تموز 1958 دمرت الحياة البرلمانية والدستورية وادخلت البلاد في فوضى وحكم العسكر متناسين ان البلاد دخلت فعلاً في منظومة (دستورية) ان صح التعبير معترف بها من قبل نصف الكرة الارضية اي ان الثورة لم تنقلب على الدستور بل غيرت شكله لا اكثر ولا اقل، حالها حال الكثير من الدول التي نمت وازدهرت وتطورت بلا دستور رأسمالي برلماني لان بناء الحياة لا يشترط بالضرورة تغيير اشكال الحكام بين مدة واخرى بل يحتاج الى حكام راشدين وحقيقيين وبناة، الم يبنوا روسيا المتخلفة ويجعلوها تصل القمر وهم بلا تعددية حزبية ولم يبدلوا لينين وستالين بل تركوا مهمة تبديلهما للموت وحده!

اذن اين المشكلة؟.. هذا سؤال كثيراً ما جعلني اعيد قراءة الاحداث او اعيد قراءة ما كنت قد قرأته وتأملته في رحلة الاشتراكية اوما اعرفه عنها في الاقل.. واقول لعل المشكلة تكمن في ان الشعوب التي بنت انموذجاً اشتراكياً حقيقياً قائما على دستور(المكتب السياسي واللجنة المركزية) وامثالها من النظم التقدمية، وما انطوت عليه من تعاليم لبناء الحياة، هذه الشعوب بعد ان حققت لها نظمها القائمة ما كانت تريده قبل قيامها وشعرت بالشبع والاكتفاء النسبيين تجاوزت حاجتها لشكل النظام القائم الى نظام آخر اكثر ملاءمة لمرحلة ما بعد التغيير او مرحلة الوعي الجديد الذي صار يبحث عن (دستور جديد) او شكل جديد لنظام الحكم، ولان المعركة كانت قائمة لذا تلقف اصحاب الدستور الآخر هذا التذمر ووظفوه لصالحهم لتبدأ رحلة التحول مصحوبة بتوصيف سياسي اشتغلت عليه الآلة الاعلامية لدعاة دستور الرأسمالية التي راحت توصف الاشياء حسب مزاجها فكانت (الدكتاتورية) من نصيب دستور العدالة الاجتماعية ونظمها فيما كانت (الديمقراطية) من نصيب النظم الرأسمالية التي شعرت بأنها انتصرت في اواخر الثمانينيات متناسية ان سبب استمرارها في الدول التي ظلت تحكمها هو انها استلهمت الكثير من السبل (الاشتراكية) وتقبلتها مكرهة لامتصاص نقمة شعوبها عليها مثل قوة النقابات والضمان الصحي وزيادة اجور العمال وتقليل الفوارق الطبقية بين العمال واصحاب المصانع وغيرها من الاجراءات التي جاءت تحت ضغط التحول الذي احدثته (الثورة الاشتراكية) التي اجتاحت العالم وغيرت الكثير من نظمه السياسية.. انها باختصار هذبت ورشدت الدستور الرأسمالي واعطت لديمقراطيته مصداقية اكثر بينما ظلت النظم الاشتراكية نفسها ثابتة على سيرتها الاولى ليتخطاها الواقع الذي بنته بانفسها ويتخطاها وعي الانسان الذي تجاوز بهذا الوعي حاجاته الاساسية متطلعاً الى ثراء فكري اكثر وفسحة اوسع للتأمل بمفاصل الحياة المتعددة خارج اشباع الغرائز بعد ان اتسع امامه السؤال المعرفي الذي لم تستطع احتواءه النظرية الواحدة وان لم تستطع ايضاً احتواءه الرأسمالية لكن فضيلتها انها تركت مهمة السؤال والاجابة للجميع لتصنع ثراء ثقافياً دونه المعسكر الآخر وان ظل هذا داخل التنظير وحده او داخل الفعالية الثقافية المتمثلة بالفكر والفن والادب وغيرها. دولنا لم تكن بلا دستور بعد ان قامت بها (ثورات) وطنية اسقطت النظم البرلمانية التي كانت، بل وكما ذكرنا استبدلت الدستور وعليه فهي لم تسقط (الديمقراطية) لتقيم (الدكتاتورية) بل قامت بتجربة ربما نجحت في جوانب منها على مستوى التطبيق واخفقت باخرى ناهيك عن الدور الدولي واستحقاقات الصراع بين المعسكرين وهشاشة واقعنا امام قوة الآخر واصراره على تحطيم مشروع وجده خطراً عليه في اطار لعبة امساك المواقع بين المعسكرين. اعتقد ان الموضوع يحتاج الى بحث اوسع وقد يثير شهية البعض للمداخلة والتعقيب او قد يثير سخريتهم وعلي ان اتقبل ذلك بروح ديمقراطية طالما اننا نعيش (عصر الديمقراطية) ولو بعد اكثر من نصف قرن على قيام (الدكتاتورية)!.

.........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق