q
المنادون بالتمدن اليوم، أو جزء منهم ــ جزء أكبر ــ بتعبير أدق، يمارسون ذات الاستعراض الذي مارسه الحداثيون الذين تسببوا بنكسة الحداثة. فالتمدن عندهم اقتصر على تقليد ممارسات الشعوب التي تختلف بثقافاتها وموروثها وكأننا إزاء شكل مستحدث من صراع الحضارات، شكل يجعل الإنسان منشطراً بين داخله وخارجه...

يبدو أن مفردة التمدن التي عادت للتوهج بعد موجات التغيير التي عصفت بالمنطقة، وأفرزت صعوداً سرعان ما هبط لحكم (الإسلاميين)؛ تعاني هي الأخرى من سوء فهم، أو ربما هناك غايات خاصة تريد لها أن تبقى حبيسة الفهم الخاضع لمنطق الصراعات المؤدلجة. وهي بذلك تكون إلى جانب مفردات اخرى كالحضارة والحداثة والديموقراطية. وبعد فترات حالكة من سوء الفهم؛ تظهر بوادر لإنتاج بدائل تحمل ذات العنوان، لكن بآليات تبتعد عن ذهنية الاندماج بالصراعات التي غالباً ما تتطور إلى حروب تدميرية ووحشية تفتك بمستقبل الإنسان.

إن أكثر مشاكل فهم الفكرة يكمن في التعاطي معها بشكل سطحي وظاهري لا ينفذ إلى جوهر حقيقتها، مكتفياً بالقشور التي يجتهد في تأصيلها المهووسون بالمصطلحات استعراضياً، وهذه في الحقيقة هي أزمة الحداثة التي تنتكس بين فترة وأخرى بسبب الخطابات التي تبنتها جهات متحزبة يميناً ويساراً، وبالتالي فإن رد الفعل تجاه النكسات الحداثية كان سلبياً حيث حلت مصطلحات تستبطن التطرف كمصطلح (الخلافة)، والذي تم التنظير له من قبل جهات متحزبة أيضاً لكن بقناع ديني.

المنادون بالتمدن اليوم، أو جزء منهم ــ جزء أكبر ــ بتعبير أدق، يمارسون ذات الاستعراض الذي مارسه الحداثيون الذين تسببوا بنكسة الحداثة. فالتمدن عندهم اقتصر على تقليد ممارسات الشعوب التي تختلف بثقافاتها وموروثها وكأننا إزاء شكل مستحدث من صراع الحضارات، شكل يجعل الإنسان منشطراً بين داخله وخارجه.

وليس غريباً أو مخفياً قولُنا بأن انشطار الإنسان بين قيمه وبين المظاهر التي تختلف عن ثقافته، يحدث في البلدان المتعددة الهويات وخصوصاً في الشرق، حيث تتعرض التعددية المجتمعية لاهتزازات يغلب عليها السبب السياسي مع بعض المسببات الاجتماعية الطفيفة الناتجة عن احتقار الهوية الثقافية من قبل حامليها لدرجة ذوبانهم السلبي في ثقافة الآخر.

ويمكن لنا أن نضرب مثلاً بما يحدث هذه الأيام التي نقترب فيها من نهاية عام 2018 مستقبلين عام 2019 حيث تشهد أكثر البلدان احتفالات بمناسبة مولد السيد المسيح عليه السلام. في العراق عندنا توجد طائفة مسيحية كريمة، وحقها الطبيعي أن تحتفل بهذه المناسبة السعيدة التي تستمد رمزيتها من رمزية سماوية كرمزية السيد المسيح. ومشاركة بقية الطوائف مع إخوانهم المسيحيين في هذه المناسبة أمر إيجابي يعزز قيم التسامح والتعايش السلمي، خصوصاً لو تذكرنا بعض المواقف المضيئة لأبناء الطائفة المسيحية في تأجيل احتفالاتهم بذات المناسبة كونها تزامنت مع مواسم حزينة للمسلمين كموسم عاشوراء، وهم بهذا الفعل ضربوا أروع أمثلة التلاحم المجتمعي. لكننا لم نشاهد مسيحياً بالغ في حزنه على عاشوراء لدرجة يتفوق بها على حزن المسلم مثلما نشاهد العكس حين نرى بعض الشبان مدفوعين بتنظيرات "التمدن" وهم يمارسون طقوس الاحتفال لدرجة يكونون فيها مسيحين أكثر من المسيحيين أنفسهم!

وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تقليد فارغ المحتوى من الأنسنة، ولا يمت بصلة للتمدن بشيء بقدر ما تحرص على إظهار صورة هجينة من التعايش لا أكثر.

وليس لنا إغفال دور العولمة في التداخل السلبي بين المعتقدات ، خصوصاً مع شيوع المظاهر الاتصالية المجتهدة في ترسيخ الصور النمطية في ذهنية الأفراد من أن معتقداً معيناً هو معتقد يتبنى العنف المطلق، في مقابل معتقد يتبنى السلم المطلق. هذا التعميم هو الذي يجعل الصراعات مستمرة وكأنه زيت مجاني لإضاءة أكثر لمساحات التصارع الإيديولوجي الذي يريد "تقسيم النوع البشري على محور واحد، والأفراد والجماعات إما أصدقاء أو أعداء، حيث يتم تجاهل الروابط المتداخلة لعامة الناس"1

تمدن الاعتدال

وإذا كان التمدن يعاني من سوء فهم، أو من استعراض "المتمدنين"؛ فهذا لا يعني أن نظل مكتوفي الأيدي، وفي حالة انهزامية، بل يلزم السعي لإحلال تمدن بديل يعتمد على تأصيل الوئام بين الفطرة والسلوك من جهة، والتعامل مع المسارات التحديثية شريطة عدم إغفال الثوابت القيمية من جهة أخرى. وهذان السعيان سيوصلان إلى نقطة التمدن المعتدل؛ لأن التحديات التي تواجه الانسان اليوم؛ كفيلة بأن تجعل التكاتف في الجهود من ضرورات تأصيل الاعتدال كمشروع فكري لابد من المساهمة فيه بشكل يبتعد عن الفردانية في الطرح، والاعتماد على الجهد الجماعي ضمن إطار العمل المؤسسي الرصين.

إن التمدن الذي ينشد الاعتدال؛ أساسه الحفاظ على جوهر العلاقة بين الذات والمحيط مع التأكيد على ضرورة التمسك بخيارات السلم والتسامح، وعدم الانجرار للصراعات المفتعلة التي تريد شرخ العلاقة بين بني البشر على أساس المكونات والهويات.

1: ينظر : بيكو باريك، سياسة جديدة للهوية، ترجمة وتقديم حسن محمد فتحي ، ص50

اضف تعليق