q
لماذا يُستهدَف الشباب العراقي في هذه المرحلة أيضا، هل ثمة قصد مسبَّق، فالتداول السلمي والانتخابات أبعدت شبح الانقلابات، وحيَّدت خطر الطبقة الشبابية أو غيرها على السلطة، إذاً ثمة أهداف مستورة وراء إهمال وإلهاء وتخدير الشباب اليوم، وقد تكون هناك أهداف داخلية لإشغال هذه الشريحة الكبيرة...

الإهدار يعني تضييع طاقات مختلفة، مادية أو نقيضها، لأسباب ثقافية تطرها البيئة العائلية والاجتماعية بشكل أعمّ، تسود في العراق حالات هدر تطول الأموال بشقيّها العام والخاص، وتضرب الطاقات الفكرية، وتعلِّب الذكاء، وتقصي المهارة، وتشلّ أحلام الشباب، وتضرب مشاريعهم في العمق، وتعرضهم لليأس والخمول، والتحوّل من طاقة فاعلة حاضراً ومدَّخرة مستقبلا، إلى عبء يُثقل كاهل الدولة والمجتمع.

السبب بالطبع لا يحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق، إننا ثقافة سلوكية متوارَثة، يمكن الخلاص منها في الانتقال إلى التخطيط والكف عن تدمير الشباب، وسنحصر موضوعنا هذا بالمركَّب البشري العراقي المصنَّع من طبقات متباينة، ونتناول بالأخص الطبقتين السياسية والشبابية منها، تبسيطا لمنهج الكتابة، وتدقيقاً في الوصول إلى الهدف، فالأهم يجيء أولا في تراتبية التدقيق، وهو كشف الطبقة المهدورة في العراق، ومن يقف وراء استهدافها، وهل ثمّة تعمّد في الاستهداف أم يحدث الأمر كمحصّلة طبيعية للتفاعلية المجتمعية السياسية، وفي الأخير ما هي الأسباب الموظَّفة في هذا الإطار وتصبُّ في صالح من، وهل هناك مآرب خفية تحت الطاولة غير ما هو معلّن فوقها؟.

ولنبدأْ بتحديد الهدف المباشَر، فالشباب العراقي هو الطبقة المهدورة في مجتمعنا، وانطلاقا من هذا التصريح، تتوالد جملة أسئلة، منها هل فعلا شبابنا مستهدَف، الجواب يعيدنا الى الوراء قليلا أو كثيرا، فالطاغية صدام عندما شعر بالخوف من الشباب، فرض عليهم فكرا شوفينياً محدِّداً لمواهبهم وفاعليتهم، وحين قفز الشباب فوق هذا الشَرَك المنصوب غيلةً، بادر الطاغية الى استلهام خطط وأحابيل من سَبقه في إلهاء الشباب وتكبيلهم بما لا يعنيهم، وبما لا طاقة لهم به، فكانت سلسلة الحروب وتجييش الشعب، حماية للكرسي المهدَّد بالانهيار، فمتى تُستهدّف الطبقة الشبابية؟ الجواب حينما تُصبح مصدرَ قلق للنظام السياسي، ولماذا تُهمَل هذه الطبقة، ويُزَجُّ بها في ميادين لا علاقة لها بالفاعلية الشبابية، وهذا ما حدث تحت خيمة النظام الدكتاتوري الذي كان لا يستحي ولا يخاف، وإن لم تستحِ فافعل ما شئت، التساؤل الجوهري الفارض لمضمونه هنا، لماذا يُستهدَف الشباب العراقي في هذه المرحلة أيضا، هل ثمة قصد مسبَّق، فالتداول السلمي والانتخابات أبعدت شبح الانقلابات، وحيَّدت خطر الطبقة الشبابية أو غيرها على السلطة، إذاً ثمة أهداف مستورة وراء إهمال وإلهاء وتخدير الشباب اليوم، وقد تكون هناك أهداف داخلية لإشغال هذه الشريحة الكبيرة بما لا يجدي نفعاً، وليس أدل على ذلك من نشر وسائل اللهو، ومنها المخدرات، وتقليد النموذج الغربي في الشكل.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل يعرف القادة أنّ طبقة الشباب مهدورة الطاقات والمواهب، وهل يقدّروا بميزان العقل السياسي، كم هي الخسائر التي تسقط من ملْكية الشعب العراقي حين يُهدَر المجهود الشبابي؟ إنهم يعرفون تمام المعرفة بما يحدث من هدر مخيف، ولكن سياسة غض الطرف، البلادة المقصودة، الإهمال المتعمَّد أساليب لا ينصرف عنها المسؤولون، ولكن إذا لم يكن الكرسي مهدّدا، فهل ثمّة هدف أهم وأكبر، لقد تم استبدال الطاغية المقبور، بالجشع الحي بالأخص من الساسة، فبعد أن اطمأنت الزمرة السياسية لتداولية السلطة، لم يعد سقوط العرش شبحا مخيفا لها، فتم استبدال الخوف على الكرسي، بالخوف من تفويت فرصة الغنى المادي، فصار هذا الهدف هاجساً للمنظومة الوظيفية، من أدنى موظّف الى الأعلى، وصار المنصب بقرة حلوب يجب أن تدرّ على من يمتلكها حليبا وأموالاً وذهباً بعد علْفها ومسخها، فهل يستحق الشباب أن يُهدَروا في نظر الراصدين لحركة المال والتخطيط للسيطرة عليه واكتنازه؟، بالآخر فإن الفكر الاستحواذي يفرض على المسؤول تجميد الشباب وإلهائهم.

السؤال المكمّل للذي سبقهُ وهو بنفس المستوى من الأهمية، هل باتت الطبقة الشبابية في العراق مهدورة فكرا وقولا وواقعا، وقد ناقش مفكرون طاقة الإنسان العربي المهدور، وألّف بعضهم كتب تصدَّت لهذا الحقل، أنواعه، أسبابه، فرضياته، الكاتب مصطفى حجازي مؤلف كتاب الإنسان المهدور، يختار الإنسان العربي ليقدم عينة دراسية تطبيقية لمفهوم الإنسان المهدور، ويرى بهذا الصدد أن علم النفس في العالم العربي مقصّر جدا في تناول كثير من قضايا الإنسان العربي المصيرية والوجودية، وذلك لأسباب عديدة منها أننا مازلنا تابعين لعلم النفس الغربي الذي نشأ وتطوّر لخدمة احتياجات المجتمع الصناعي في الغرب تحديداً، وهناك سبب مهم آخر يتمثل في تعاظم نظام المحظورات الذي ما انفكّ يتفاقم في عالمنا العربي، حيث يحرَّم على الباحثين الخوض في تفاصيل تعتبر ممنوعة على التفكير الحرّ نظرا لما تشكله من خطورة على فضح النظام السياسي العربي، أما العراق فهو لا يذهب بعيدا عن أقرانه، ولكن هناك إيغال وربما غلوّ في تحييد الطبقة الشبابية بطرق ووسائل شتى، وقد لا ينحصر الوضع بإهدار الطاقة أو الكفاءة، فيتعداها الى ما هو مجسَّد فعلي يطول الذات والكينونة بشقّيها المادي والفكري، فيُصبح مفهوم الهدر أكثر شمولية من التصدي لطبقة بعينها، فالهدر بحسب حجازي يبدأ من هدر الدم إلى هدر الوقت مرورا بهدر الفكر والوعي، وعندما يصبح الوعي والإبداع هدفا للإهدار المتعمَّد، ستكون النتائج على قدر مفزع من الخطورة، فلا شيء مادي مالي أو سواه يمكن أن يسد فراغ الثقافة والوعي القادر على تعديل الميلان والاعوجاج بمختلف مسمياتهِ.

على أننا مطالبون بأن نؤكّد على أن الإهدار، حين يستهدِف ويترصّد طبقة أو فئة أو مسمّى بعينه، فيأخذ شكل عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة وحتى الحق بالوعي بالذات والوجود، لذلك فإن الإهدار أكثر خطورة من القهر، مع أن القهر والهدر يهدفان الى نتيجة متطابقة مؤدّاها سلب الإنسان قدراته المختلفة أو تجميدها لجعلها ضمن ما يستهدفه رعاة الإهدار والعامدين له توظيفاً لحماية مآربهم، وليس ثمة فارق كبير بين ما حدده حجازي وبين ما يحدث في العراق، مجتمعاً وطبقة شبابية، وساسة جشعهم سدَّ آذانهم بالشمع وعيونهم بالقذى، ولكي يثبت القادة في العراق بطلان مثل هذه التحليلات، يجب أن يثبتوا العكس، فإذا صار شبابنا محميين من مظاهر الإلهاء عبر التخدير، وقتل الوقت في الكازينوهات والمقاهي والنارجيلة، وإذا نهضت رؤوس أفكارهم وأفعالهم، طاقاتهم ومهاراتهم، وإن شاركوا بفكرهم المتوقد وحماستهم في عمليات البناء، فإن استبدال مثل هذه المنظورات يغدو ممكنا، وتتعالى مناسيب الثقة بمن يقود البلاد، ولو توافرت النوايا الصادقة لتعديل السياسات عامة، وحيال الشباب بوجهٍ أخص، وهذا التعديل لا يحتاج إلى مدركات عالية أو ذكاء خارق، بقدر ما يتطلّب إرادة سياسية مؤمنة بتغيير أوضاع البلاد، وانتشال الشباب من رقدة السبات التي تهيمن عليهم بفعل فاعل، قإذا توافرت مثل هذه الإرادة، سوف يتقلص منسوب هدر الطاقات الشبابية وسواها، وسوف يلاحظ العراقيون وأولهم القادة، مدى التغييرات الهائلة في حياتهم.

اضف تعليق