q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الليبرالية ومفارقة الحداثة

الليبرالية قيم أم اقتصاد

يسعى الليبراليون الى تسويق الليبرالية على انها قيم وثقافة وجود بشري خاص واستثنائي في تاريخ البشر أنجزته أمريكا في دخولها المباشر على التاريخ الحديث، فالليبرالية نسخة أميركية عن مفهوم الحداثة الذي أسست له أوربا في عصر التنوير في القرن الثامن عشر الميلادي وقسمت التاريخ...

دائما يسعى الليبراليون الى تسويق الليبرالية على انها قيم وثقافة وجود بشري خاص واستثنائي في تاريخ البشر أنجزته أمريكا في دخولها المباشر على التاريخ الحديث، فالليبرالية نسخة أميركية عن مفهوم الحداثة الذي أسست له أوربا في عصر التنوير في القرن الثامن عشر الميلادي وقسمت التاريخ البشري فيه الى قديم وحديث، لكن الحداثة كانت في صلب قيم أساسية وحقيقية وان تبنتها البرجوازية لدوافع براغماتية واقتصادية، لكن الحداثة لم تؤسس لهذه القيم أو توظفها ببراغماتية من أجل أهداف غير معلنة، فكل قضايا الحداثة كانت معلنة وغير خفية، ولذلك كانت الرؤية واضحة تجاهها سواء من ناحية الحداثويين أو الشعوب التي انخرطت في مسيرتها.

وتقوم الحداثة على فكرة العقل الذي يتأسس على مبدأ التجربة والحس والدليل العلمي وحقوق الانسان التي تتأسس على مبدأ الحرية، ونتج عن هذا الوضوح والطرح الذي يتصل بواقع الانسان والمجتمعات التي نشأت تاريخيا في اوساطها الحداثة، نتج عنه اختفاء العدوانية والقيم المؤسسة للأنانية الفردية في فضاءات الحداثة الفكرية والمعرفية، واختفت فيها أفكار العنصرية والتمييز اللاإنساني، وغرست الحداثة في نظامها الثقافي مبدأ المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية تجاه المجتمع من خلال ترسيخها مفهوم الدولة الحديثة الذي يقوم على أسس التعاقد غير المرئي بين افراد المجتمع، لينتج هذا التعاقد الذي افترضته الحداثة نظاما من العلاقة بين الافراد تمثله قانونيا وتجسده اجتماعيا الدولة التي لم تضع الربح لاسيما الاقتصادي نصب عينيها كدولة أو كنظام يتشكل بذاته قانونيا واجتماعيا، بل سعت الى الربح بكل صيغه إداريا وسياسيا وتلك وظيفة مهمة من وظائف الدولة.

وقد انتابت مسيرة الحداثة صدمة مؤلمة بالنسبة الى قيمها ومفاهيمها وتاريخها حين تطورت الدولة الحديثة التي أنتجتها في أوربا الى دول استعمارية وشنت حروبها على دول وشعوب آسيا وأفريقيا، ثم تطورت حروب هذه الدول الأوربية الى تدمير ذاتها وانجازاتها وحداثتها ودولها في حربين كونيتين سحقت أوربا ودمرت إمكانية السلام الذي كانت تنشده مبادئ الحداثة، ولتخلي المجال السياسي والاقتصادي الدولي الى الولايات المتحدة الأميركية لتستثمر ما يمكن أن نطلق عليه فشل الحداثة لتؤسس لقيمها اللبرالية ونزعة الدولة التي تؤسس بنيويا واستراتيجيا ايديولوجيا لحسابات الربح الاقتصادي، وهنا تكمن الخطورة حين يدخل التفكير بالربح لاسيما الاقتصادي جسد الدولة السياسي والاجتماعي وهو ما تؤسس له الليبرالية فكريا وثقافيا.

يقول الكاتب منذر خدام "ظهرت الليبرالية كعقيدة اقتصادية، وضع أسسها النظرية الاقتصادي الكلاسيكي الأشهر أدم سميث في كتابه "بحث في ثروة الأمم" المنشور في عام 1776" – راجع مقالته اللبرالية الجديدة، الحوار المتمدن، العدد 2137، 22/ 12 / 2007 - وحينئذ تشكل الليبرالية خطرا على باقي المجتمعات والدول وهو ما تؤكده التجربة الليبرالية في خططها الاقتصادية والتجارية الدولية وسياسات السوق الحرة المتبعة لديها، وحتى في تطوراتها التي أرادت ان ترسي لها ابعادا إنسانية او ما عبرت عنه صيغة القيم الامريكية العليا في الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان فإنها ظلت على تماس مباشر في منطلقها الاقتصادي وكان مرورها يجب أن يكون عبر مصالح أميركا العليا كما أوضح بعض قادة أميركا في الحرب على العراق، وقد تحولت الحرية لديها على أثر ذلك الى فقدان المسؤولية بعد ان تأسست أفكارها في نطاق من الفردية المطلقة وأولوية العلاقة بالمال والربح كقدر يحكم الحياة البشرية وهي بؤرة مصالح أميركا العليا، وهي أول مفارقة ليبرالية عن قيم الحداثة التي تؤمن بالحرية المسؤولة وحقوق الانسان وفق منطق ذاتي وفلسفي انساني كما طرحته الحداثة، وليس توظيفي كما تفعل الليبرالية.

وكان ستيوارت ميل يطمح الى تعديل مسارات الليبرالية في الفردية المطلقة والحرية، فالفردية المطلقة تحولت لديه الى إمكانية في التحول والتقدم دائما ويتيحها له المجتمع، فالإنسان كائن اجتماعي يقول ميل في عودة الى المنطق الاجتماعي في الحياة الذي يغيب دائما عن الليبرالية في نسختها الكلاسيكية والجديدة، وفي الحرية يرى ميل أن الحرية تشترط الشرط الاجتماعي في ضمانها واستمراريتها فهي من صلب سياسات ووظائف الدولة وهو ما يفرض عليها أن تُؤمن قدرا من المساواة بالنسبة للمهمشين، وأن الحرية بذلك تتجاوز الرؤية التقليدية لها في الليبرالية بتكلسها في مفهوم السوق. ويضع ميل السعادة هدفا عمليا للمجتمع على خلاف الليبرالية التي تعنى بسعادة الفرد –راجع الليبرالية “الجديدة” من ليبرالية الأحزاب إلى ليبرالية الأفكار بقلم كاترين إدوارد استاذة فلسفة السياسة والاخلاق في معهد لندن للاقتصاد ترجمة عن الفرنسية: ميشال أ. سماحة خبير إقتصادي إجتماعي، موقع القوات اللبنانية-.

ويبدو ان الليبرالية صارت لا تؤمن بالعقل القيمة العليا للحداثة وتلك ثاني مفارقتها عن الحداثة، فالليبرالية الأميركية باتت تحركها خرافات المسيحية البروتستانتية – الأميركية، وبالقدر الذي انقطعت فيه الحداثة عن الكتاب المقدس – المسيحي واليهودي ولم تعد على علاقة معرفية وفكرية بمحتويات الكتاب المقدس او الوحي المسيحي ولم تعد الكنيسة بالنسبة اليها مرجعا أساسيا في معرفة الحقيقة والوجود والعالم، وبكل هذا القدر كانت الليبرالية الأميركية عمليا تؤسس لعلاقة ذات بعد ديني متطرف وحاد في المرجعية للكتاب المقدس بنسخة التصور البروتستانتي واليميني الأميركي، وقد يجد المتلقي غرابة في ذلك، لكن نشأة الرأسمالية التي تكونت فيها الليبرالية كانت في الزهد والتقشف البروتستانتي المسيحي وفق عالم الاجتماع ماكس فيبر، وقد ظهر ذلك جليا في السياسات الاميركية المؤيدة لإسرائيل وفق محددات الايمان المسيحي البروتستانتي وهي سياسات على صلة بأيديولوجيا التعددية الثقافية والتقسيم الاثني والهوياتي للعالم على أساس هذه التعددية ذات المنحى الفكري والثقافي الليبرالي الخاص، وقد شكل الايمان بالتعددية الثقافية خطرا واضحا على الهوية الوطنية الجامعة التي انتمت لها الدولة الحديثة لاسيما في واقع الدول الفتية والحديثة التأسيس والتي باتت تعيش أزمات الفوضى والنزاعات الأهلية بتأثير السياسات الأميركية ومنها دولتنا العراقية.

وأما ثالث مفارقات الليبرالية عن الحداثة وهي على صلة بما تقدم لكن بصياغة أخرى، فالدولة او مفهوم الدولة بات مهددا أمام الليبرالية لاسيما ما يطلق عليها أخيرا بالليبرالية الجديدة التي هي عودة متطرفة وحادة لليبرالية الكلاسيكية في نهجها الاقتصادي – السياسي الذي يسمح للأفراد بالمرور من أجل الربح ويتجاوز مفهوم الدولة الذي أسست له الحداثة، وقد تبنت الليبرالية الجديدة ذلك الخط في الدفع بالدولة الى الهاوية من خلال اعتراضها على التدخل في سياسات الاقتصاد الرأسمالي وعدم السماح لها بتوجيه تلك السياسات، وبالتالي فهي تلتقي في نهاية المطاف مع الفكرة الشيوعية بإلغاء الدولة، لكن مع الليبرالية لخدمة الفئات والطبقات الرأسمالية بينما وضعتها الشيوعية في يوتوبيا نهاية مراحل التاريخ من أجل المجتمع كافة، وهي كذلك التقت بالفكرة الشيوعية في نهاية التاريخ وتوقفه التي عُدت مقولة ليبرالية بامتياز، وهي مرحلة مفارقة مهمة عن الحداثة التي تؤمن فكريا ومعرفيا بحركة التاريخ المستمرة وغير المتوقفة، وهو ما عبرت عنه فكرة التطور والتقدم المستمر الذي آمنت بهما الحداثة في القرن التاسع عشر واستندت اليهما في حركتها التاريخية التي تطور من خلالها التاريخ البشري الى العالم الحديث رغم الصدمة المؤلمة التي تعرضت لها في خطط تطور وتقدم التاريخ البشري بانتكاساتها المتعددة على الصعيد الإنساني والأخلاقي رغم نجاحه على الصعيد العلمي والصناعي والتقني.

لكن الخطر الأكبر في توسعات الليبرالية – الرأسمالية هو تحويرها مفهوم التقدم باتجاه تجاوز قيم الحياة التقليدية التي تتأسس وفق مفهوم السعادة الذي انشغلت به الحداثة كثيرا الى تأسيسها ليبرالي وفق مفهوم اللذة لتبيح مذاهب العري ومذهب المثلية – الجنسية، ورغم أن الليبرالية قد تطورت عن الحداثة تاريخيا وفق أكثر الباحثين في تاريخ الحداثة الا أنها شهدت افتراقا فكريا وتاريخيا ملحوظا لها عن الحداثة.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق