q
في القطاع الخاص ذي المشاريع الكبيرة وحتى المتوسطة، نلحظ أن الفكر الصناعي والاقتصادي يتمتع في إجازة طويلة الأمد، فلا توجد خريطة عمل تنظّم هذا القطاع وتجعله في خدمة نفسه والشعب والدولة، وهذه هي مهمة القطاع الخاص في جميع دول العالم إلا في العراق، هناك جهات تضع العصي في دواليب القطاع الخاص، لا يروقها أن يتقدم هذا القطاع ويحمل شيئا من الأثقال عن كاهل الدولة وإن كان قليلا...

لا يُستغنى عن الثقافة في أي مدارٍ حياتيّ، فصناعة الإنسان المثقف، مع تنوّع الاختصاصات هو ديدن الدول الناجحة، فالحاجة تحدونا إلى صناعة فلاح مثقف، وطبيب ومعلم وضابط وموظف وعامل مثقف، لذا لا شيء يدخل في مدار الصناعة، إلا ويكون للفكر علاقة مباشرة أو غير مباشرة به، ونستطيع الجزم أن كل ما يجري في الحياة بشقّيه الملموس والمدرَك قائم على الفكر، باختصار نحسم هذه الجدلية فنقول، الفكر لا ينفك يتدخل في كل مصنوع ماديّ أو معنوي، ومن دون الفكر لا يمكن صناعة شيء سوى العبث والعدمية المستمدة من تصفير العقل، ولنذهب في توغلنا إلى مسافة أبعد فنقول، بانعدام الفكر تنعدم الحياة، ويعود الإنسان أدراجه إلى عصر الغاب إن لم يعد إلى العصر الحجري، حيث العقل يجثو على أربع لا يفقه شيئا يقوده نحو الصواب في معمعة الدنيا.

نحن في العراق تردّت لدينا تفاصيل الحياة اليومية، فصارت تسودها العبثية وغياب الانتظام في هيكلية موضوعة التفاصيل والملامح، فناشت سهام الارتجال حياتنا في الصميم، في كل مجال هناك درجة من التردي تفوق قرينتها، ولكن في هذه الكلمة نريد أن نثبت أن ضمور الفكر أخلَّ بالصناعة الوطنية، لم توضع خريطة فكرية تهتدي بها الصناعة، الدوائر الصناعية الرسمية لا تعرف ماذا تفعل ولا يهمها ما تفعل أصلا، فالنتائج لا تهم هذه الدوائر طالما لم يمسسها ضرر مادي يطول رزقها أو الراتب الشهري، فلم نسمع أن المدير الفلاني أقيل أو أعفيَ من وظيفته لأن الناتج المادي لمعمله أو مصنعه أو دائرته هبط دون المستوى المقبول، كما أننا لم نسمع بمكافأة المدير الذي تميز مصنعه عن سواه في الإنتاج.

وطالما كان الحال على هذه الشاكلة، لا ثواب ولا عقاب لماذا إذاً يتعب المدير أو الموظف بأية درجة كانت، رأسه وعقله لكي يطور الإنتاج وتنجح المؤسسة الصناعية المادية أو الفكرية التي يديرها، والطامة الأكبر تلك المعامل والمصانع التي تفتح أبوابها لآلاف العمال والموظفين يوميا، ولكن من الغرابة حقا، أن منتجها يقارب الصفر أو تحت الصفر أحيانا، أي أنها تحولت إلى عبء على الدولة، وهل يوجد في دول العالم أجمع بما فيها المتخلفة، موظف واحد أو عامل يقبض أجرا دونما أي عمل أو منتَج؟، هذه الظاهرة الغرائبية تجدها هنا بين ظهرانينا، في بلد العجائب والغرائب، في معمل الإطارات الكائن بين كربلاء المقدسة والنجف الأشرف يوجد مئات العمال الذين يقبضون رواتب من خزينة الدولة من دون أن يضيفوا لهذه الخزينة فلساً واحدا، أما الحديث عن عمالة التصنيع العسكري فتلك كارثة أخرى، إذاً لا توجد رؤية فكرية متكاملة ترفع عن كاهل الدولة والشعب مثل هذه الظواهر التي لا توجد في دول العالم أجمع، فهي ليست إعانات اجتماعية، ولا منح تُصرف لأناس عاطلين، إن الأموال التي تبلغ المليارات تؤخذ عنوةً من الدولة لتُعطى لموظفين وعمال لم يحركوا ساكنا، وهنا مكمن الغرابة والعَجَب.

في القطاع الخاص ذي المشاريع الكبيرة وحتى المتوسطة، نلحظ أن الفكر الصناعي والاقتصادي يتمتع في إجازة طويلة الأمد، فلا توجد خريطة عمل تنظّم هذا القطاع وتجعله في خدمة نفسه والشعب والدولة، وهذه هي مهمة القطاع الخاص في جميع دول العالم إلا في العراق، هناك جهات تضع العصي في دواليب القطاع الخاص، لا يروقها أن يتقدم هذا القطاع ويحمل شيئا من الأثقال عن كاهل الدولة وإن كان قليلا، لا تتوقف مشكلة هذا القطاع عند هذا الحد، وليس محاربته الخارجية (من خارج القطاع الخاص) هي المشكلة الوحيدة، فهناك مشكلة أكبر، إنها عجز القطاع الخاص نفسه، وتردده وتخوّفه وفسح المجال أمام المعادين لوضع العراقيل في طريق نموّه، فلا توجد رؤية فكرية اقتصادية صناعية تفتح الأبواب أمام هذا القطاع، وحين نضيف إلى ذلك تلكّؤ قادة القطاع الخاص وتهرّبهم من مسؤولياتهم الوطنية، وانشغالهم بالمشاريع الصغيرة التي تدرّ عليهم أرباحا سريعة، فإن مشكلة الصناعة والفكر سوف تبدو أكثر وضوحاً.

ومن الغريب أيضا أننا كبلد (زراعي صناعي) لا نمتلك قاعدة فكرية ترسم الخطوط العريضة لهذين القطاعين، وطالما خصصنا هذه المقالة عن الفكر والصناعة، فإننا في العراق نحتاج أشد الحاجة إلى قاعدة بيانات صناعية، تجرد عدد المشاريع الصناعية القديمة والمستحدثة، وتحصي أعداد الموظفين والعاملين، وتفرز بوضوح بين العام والخاص، وعلى المفكرين الصناعيين والاقتصاديين أن يتحملوا مسؤوليتهم النظرية على الأقل، فالمُراد منهم تقديم الخرائط الفكرية الصناعية العملية لرئيس الوزراء، ولوزارة التخطيط، ولوزارة الصناعة، وعلى مجموعة الخبراء الوطنيين أن يدلوا بدلوهم، وأن يبادروا للتدوين والتوضيح والتذكير والتحذير، أي عليهم أن يقوموا بمهمتهم الفكرية الصناعية الدلالية بأفضل ما يمكن.

فقد ارتقى الفكر الصناعي بالأمم التي كانت تستدل على طريقنا بسيرها المتئد وراءنا، نحن سبقناهم فكرا وصناعة وزراعة، لكنهم اليوم صاروا يتقدمون علينا، كما نلحظ في التجربة الهندية التي يفوق نفوسها مليار نسمة، وكذا الحال لكثير من الدول الآسيوية التي كانت تحتضر بين كماشتي الفقر والضبابية الفكرية والتنظيمية، نحن اليوم نمر بما كانت تمر به تلك الدول من عبثية ولا جدوائية، بالأخص أننا لا نعبأ بالفكر الصناعي ولم نسعَ (القطاع العام/ الخاص)، إلى بلورة وتطوير قاعدة صناعية فكرية، تنمّي وتطوّر ثنائية الإنتاج (الإنسان/ الآلة)، وفي الوقت الذي وصل فيه العالم إلى الاستغناء عن عشرات الآلاف من العمال باستخدام التقانة الإلكترونية، لا زلنا نتخبط في متاهة ضمور التخطيط الصناعي، في الجانبين الفكري والعملي الإنتاجي.

ولا جديد في قولنا أن في العراق كل مستلزمات التطوير الصناعي، حيث توافر المواد الأولية، والأيدي العاملة، ولا يعوزنا سوى التفكير السليم ومن ضمنه التخطيط الصائب، وتقديم الاستشارات الصناعية الفكرية الدقيقة للحكومة والجهات ذات العلاقة، ومن ثم الانطلاق في هذا العالم الرحب، بعد ضبط الإيقاع الفكري التنظيمي والقانوني للقطاعين العام والخاص، مع أهمية تداخل الخطوط فيما بينهما، مع مراعاة العمل باستقلالية، على أن لا تلغي التعاون المحسوب والمنظّم، مع تقديم الوصايا الفكرية الاقتصادية لوزارتي الصناعة والتخطيط، وقبلهما أمانة رئاسة الوزراء، على أن لا يجري إغفال بلورة وتطوير ثقافة عالية لمجموعة العمالة والموظفين في القطاعين المذكورين.

اضف تعليق