q
ترسم سياسة الإدارة الأمريكية بزعامة دونالد ترامب صورة حقيقية للسياسة الدولية؛ بواقعية واضحة المعالم والدلالات حول الركائز الحقيقية التي تحكم السياسة الدولية، والتي مضمونها القوة أولا وأخيرا دون رتوش دبلوماسية تجميلية...

ترسم سياسة الإدارة الأمريكية بزعامة دونالد ترامب صورة حقيقية للسياسة الدولية؛ بواقعية واضحة المعالم والدلالات حول الركائز الحقيقية التي تحكم السياسة الدولية، والتي مضمونها القوة أولا وأخيرا دون رتوش دبلوماسية تجميلية.

والإدارة الأمريكية الحالية بزعامة ترامب ذاك الملياردير النرجسي هي في الحقيقة انعكاس عميق للثقافة الرأسمالية بأبشع صورها وبكامل أنانيتها. وهذا يقودنا إلى أنه ثمة قوى وازنة في الولايات المتحدة؛ وفي العديد من الدول العظمى في هذا العالم لا تعرف الارتجال؛ ولديها تصورات دقيقة ومحسوبة ومقدرة بمنهجية علمية عن طبيعة الخريطة الثقافية لشعبها وللشعوب الأخرى؛ علاوة على الطبيعة الحقيقية للأنظمة الحاكمة والجغرافيا السياسية للدول وللمناطق والأقاليم وللثقافة السائدة فيها على امتداد خارطة العالم، وأن تلك التصورات تستثمر في الزمان والمكان المناسب لخدمة مصالح تلك القوى.

وترامب لا يعدو إلا منفذ لسياسات تلك القوى الوازنة في الولايات المتحدة؛ والتي أوصلته إلى حيث هو الآن وتحيطه بنخبة من المساعدين الأذكياء والاستراتيجيين فائقي الكفاءة لتمرير سياسات كان من المستحيل على أي سياسي ذو تاريخ بالقبول أن يكون شريكا فيها؛ لكن ترامب الشعبوي النرجسي وافق أن يكون أداة لتلك القوى التي لا يهمها إلا مصالحها الاقتصادية الاستراتيجية ولو كان بأبهظ الأثمان الأخلاقية.

وخلال عام من حكم إدارة ترامب استطاع جلب استثمارات بقرابة الترليون دولار للاقتصاد الأمريكي بصفقات مع دول الخليج؛ حيث لعبت فيها الولايات المتحدة على الهاجس الأمني الخليجي من النظام الإيراني وطموحاته في الاقليم؛ واستغلت الإدارة الأمريكية الخلاف الخليجي بين السعودية وقطر في دفع الأخيرة لإبرام المزيد من صفقات التسلح لتتدفق سيول المليارات على الاقتصاد الأمريكي.

وتدرك القوى النافذة في الولايات المتحدة طبيعة المنطقة الخليجية بأدق تفاصيلها السياسية والاجتماعية والثقافية، وقدرت أن عملية النهب الصريح لثروات المنطقة ستمر بسلاسة وربما لو كان لديهم شك في غير ذلك لاختلفت آلية النهب؛ ولم تكن بتلك الوقاحة التي تجسدت في كلمات ترامب لولي العهد السعودي لدى استقباله الأخير في البيت الأبيض.

من جانب آخر قامت إدارة ترامب بالاعتراف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهي تستعد خلال أيام لنقل سفارتها إلى القدس؛ ومن المؤكد أن إدارة ترامب والقوى الداعمة لها درست بدقة متناهية التوقيت والتداعيات؛ وتوصلت إلى أن الوضع الداخلي الفلسطيني والاقليمي لن يكون مناسبا لتمرير خطوة من هذا القبيل أكثر مما هو عليه اليوم في ظل حالة التشتت والصراع والانقسام الفلسطيني؛ وفي ظل حالة الفوضى والتشرذم والتفكك والوهن العربي، ومرت هذه الخطوة ومن المنتظر أن تنقل السفارة منتصف الشهر الحالي؛ ولا يبدو في الأفق أي ردة فعل عملية على الأرض عربية أو حتى فلسطينية مدروسة لمواجهة الخطوة الأمريكية، وهو ما يعني أن علينا كفلسطينيين أن نستعد لاستقبال صفقة القرن بنفس الآلية والأسلوب الارتجالي الذي اتبعناه تجاه تمرير الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، فلا أحد من الفلسطينيين يمتلك خطة عملية لمواجهة صفقة القرن غير الشجب والإدانة وعدم الاعتراف.

وبالرغم من أن مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن نيكي هيلي صرحت قبل أيام أن الصفقة ستمر وليس شرطا أن يوقع الفلسطينيون عليها، وتلك مع الأسف حقيقة مدعمة بالواقع السياسي الفلسطيني الارتجالي المنقسم والعربي المفكك والتابع الذي بات يرى في القضية الفلسطينية عبئاً ثقيل عليه يمنعه من تطبيع علاقته مع أكبر لاعب إقليمى للولايات المتحدة ألا وهي إسرائيل لمواجهة الخطر الإيراني المزعوم والذي يهدد عروشهم.

وفي المقابل تعد الإدارة الأمريكية حلفاءها في المنطقة بإنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة، وتهدد أنها خلال أيام ستنسحب من الاتفاق النووي مع إيران، وتطلق يد إسرائيل لاستهداف الوجود العسكري الايراني في سوريا عبر غارات تستهدف قواعده فيها، ولكن الإدارة الأمريكية ومن وراءها القوى الوازنة في الولايات المتحدة تدرك أن المواجهة مع إيران ترتبط بمحددات دولية تلعب فيها روسيا دورا أساسيا في وضع الخطوط الحمراء، ولا تبدو إيران صيدا سهلا لإسرائيل وقوى التحالف الإقليمية؛ وعليه فإن حالة التسخين القائمة اليوم بين إيران والتحالف العربي الأمريكي الاسرائيلي هي حالة تسخين منضبطة ومحكمة الإيقاع بمحددات دولية لن تصل بها إلى نقطة الانفجار بقدر ما يمكن أن تصل بها إلى تليين المواقف؛ كما حدث في الأزمة الكورية التي لعبت الصين فيها دور أساسي في إطفاء نيران التصعيد وصولا إلى جمع الزعيمين الكوريين في قمة سيعقبها قمة أمريكية كورية شمالية نهاية الشهر الحالي.

وكلا الأزمتين الكورية والايرانية تقعان ضمن محددات دولية لقوى عظمى لديها دراية عميقة بأدق التفاصيل السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وربما السيكولوجية لكافة أطراف تلك الصراعات، وهي تبني قراراتها طبقا لدراسات معمقة وبأقل نسبة خطأ ممكنة اعتمادا على مبدأ واحد وهو أن الشرعية تُفرض على الأرض بالقوة.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
[email protected]

اضف تعليق