q
قد تنتج الفردية تداعيات تستغلها الجهات التي ستستثمر انزواء المثقف؛ لتمارس منهج التجهيل بالمعرفة، فيتفشى الخدر الثقافي والفكري في صفوف المجتمع، وقد تكون التداعيات أشد في حال انخرط المثقفون في مشاريع التجهيل التي لن تضر بفرديتهم بينما قد تعود عليهم هذه المشاريع بالفائدة كونهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا سلعاً جاهزة لترويج التجهيل...

العدوان الأخير الذي شنّه الثلاثي الأمريكي البريطاني الفرنسي على بعض الأهداف في سوريا، ممولاً بالمال والدعم العلني من بعض الأطراف الخليجية؛ كشف لنا فضلاً عن قبح الحرب ونتائجها التدميرية على الإنسانية عن أنساق مضمرة كانت مختبئة في أذهان كثيرين من النخب الفكرية والثقافية. فجأةً ظهرت هذه الأنساق من دون تخطيط مسبق لإظهارِها، ولم تكن لدى المثقفين المهارة الكافية على مايبدو لإبقائها على رفوف الخفاء.

وكأي أزمة أو حرب تنشب في محيطنا، يهيمن على المواقف منطق الانتماء السلبي للإيديولوجيا أو العرق والطائفة من دون تحليل حقيقي وواقعي لمسببات الأزمة، ومعطيات استمرارها، لدرجة انتقال الجدل وتدحرجه مثل كرة الثلج في مناطق مختلفة من العالم المتشظي والمنقسم بين من يرى مصلحة في بقاء (سين)، وبين من يرى ضرورة ضربه من قبل (صاد) والقوى المتحالفة معه، والممولة لضربته مادياً ومعنوياً وإعلامياً.

يكتب أحدهم وهو خارج الصراع الدائر بين مؤيدي النظام السوري ومعارضيه، يكتب مُديناً هذه الهجمات، ساخراً من اللانتائج أو النتائج المحدودة التي لم تناسب حجم التهديدات والتصريحات التي سبقت الهجمات، والتي روجت لها ماكينة إعلامية ضخمة ، عكست على مستوى وعينا في الشرق عن نكوص حضاري هائل، وتغليب مزعج لمنطق الانتماء السلبي. يكتب هذا متمنياً السلامة للشعب السوري، وأن يُجنب الله البلاد كل دمار وخراب بفعل الضربة الأمريكية، فيواجهه مثقف متشنج ويتهمه بأنه دعاية إعلانية مجانية لتجميل صورة النظام وبقائه في السلطة، ثم يذهب للكتابة عبر مواقع التواصل عن خيبة أمله من إعلان المهاجمين انتهاء العمليات، إذ كان يتمنى استمرارها للإطاحة بالنظام!

ولكن هل سأل هذا المثقف نفسه عن آثار استمرار الضربات العسكرية على شعبه من الأبرياء؟ وهل يمكن أن يصل الانتماء لهذه الدرجة من العنف المفاهيمي؟

ولو قلنا بأن المعارض من نفس البلد (سوري)، والمؤيد كذلك، والبلد بطبيعة الحال بلدهما ولكل وجهة نظره، فماذا سنقول عن الانقسام الانتمائي الحاد للنخب الثقافية في بلدان الوطن العربي تجاه ضربات الثلاثي المعتدي على سوريا؟

أي أنساق قبيحة تلك التي أظهرها المثقفون المرحبون بالضربات على سوريا (الخليجيون خصوصاً)؟ ونفس السؤال عن الذين رفضوا العدوان وفق منطق الانتماء المذهبي ؟ نمط جعل من روسيا الأمل والمخلص لمشاكل الشرق، ونمط آخر راح يتفاخر بأن سوريا باقية طالما ظلت محمية من النظام الإيراني، والطرفان أغفلا أو تغافلا عن قضية المصالح والصراع على النفوذ الذي تمارسه القوى الكبرى والقابل لمنطق الشد والجذب.

نعتقد أن انقسام النخب الفكرية والثقافية تجاه الحروب الوحشية وفق منطق الانتماء سيزيد من مساحة الكراهية بين المجتمعات، ودوننا الشواهد الواقعية في بلدان العراق واليمن وسوريا وليبيا ومصر.

إن أكثر ماتحتاج له مجتمعاتنا اليوم نماذج نخبوية تذكرنا بمواقف الفرنسي (رومان رولاند) الذي دعا أيام الحرب المدمرة في أوروبا لما يعرف بـ (أنسنة الحرب) عبر تشكيل جبهة تضم الأدباء والنقاد والفنانين والعلماء، وهؤلاء يشتبكون إيجابياً مع مجريات الحرب؛ لتشكيل موقف سلمي ثقافي يرفض كل أشكال التدمير ورفض المعاناة الجماعية التي تخلفها الحروب البشعة والموغلة بالتوحش. مهمة المثقف وفق رؤية رولاند تنحصر في احترام الإنسان مؤيداً كان أو معارضاً، واحترام المثل والقيم العليا من دون الالتفات إلى التصنيفات الثانوية التي قد تلعب دوراً سلبياً يعيق حركة العدالة الاجتماعية، ويعبث بمفهوم حرية التعبير.

تحتاج مجتمعاتنا لمثقفين لاينساقون الانسياق الفكري الأعمى والانجراف غير المضبوط لما يغذي النزاعات والصراعات، ويفقد الإحساس بالإنسان، ويقلص مساحات الحياد والعقلانية.

إن كل حرب تنشب في أزمنتنا الملتهبة هذه، والتي يسود فيها منطق الغاب؛ نابعة من رؤية (رولاند) ممثلة بثنائية (الضعف والغباء)؛ لذلك يلزم على النخب المثقفة أن تنتبه لهذه الثنائية. فالضعف إنما ينتج لعدم الحياد والوقوف في المنطقة الوسط بين أطراف التصارع، والانحياز يميناً أو يساراً لأطراف الصراع. وبذلك سيتم الانتقال بصورة مباشرة من الضعف إلى الغباء، وإذا ساد منطق الغباء أو الاستغباء في الأوساط الثقافية فعلى المجتمعات السلام.

إن الاعتداء على سوريا، وانقسام المثقفين إزاءه أعاد لنا مشكلة الفردية التي تعد أهم معوقات اندماج المثقف بإنسانيته أولا، ومجتمعه ثانياً، الأمر الذي يجعله في حالة اغتراب ثقافي يعزله عن محيطه، أو يجعله يتفاعل سلبياً مع قضاياه.

الاغتراب الثقافي هو الأقرب لواقع المثقفين والمفكرين اليوم، وهو الذي يجعلهم ميّالين للفردية الناتجة عن تشظي الهوية الثقافية بين موروث وحداثة تُغيب الخصوصية، وبين سلوك المثقفين الذين يدعون الحداثة في المقاهي والندوات، بينما نراهم أقرب للبداوة في أماكن أخرى.

وقد تنتج عن هذه الفردية تداعيات تستغلها الجهات التي ستستثمر انزواء المثقف؛ لتمارس منهج التجهيل بالمعرفة، فيتفشى الخدر الثقافي والفكري في صفوف المجتمع، وقد تكون التداعيات أشد في حال انخرط المثقفون في مشاريع التجهيل التي لن تضر بفرديتهم بينما قد تعود عليهم هذه المشاريع بالفائدة كونهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا سلعاً جاهزة لترويج التجهيل.

اضف تعليق