q

الإسرائيليون هم أول، وأكثر، من تداول بالمصطلح: "التقاسم الوظيفي"، وفكرتهم التي راجت في ثمانينات القرن الفائت وتسعيناته، قامت على تقاسم الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينيتين: الأولى تخضع لسيطرة إسرائيل وسيادتها، والثانية تُستلحق بالأردن، من ضمن صيغ متعددة، كالفدرالية والكونفدرالية و"الخيار الأردني"... "التقاسم الوظيفي" بطبعته الإسرائيلية سقط أو تعطل حتى الآن على الأقل، إن بفعل رفض الفلسطينيين للمشروع واستمساكهم بحقوقهم وأرضهم واستقلالهم الوطني، أو بسبب "الفيتو" الأردني المنطلق من نظرية حاكمة تكرست طول العقدين الأخيرين، ومنطوقها: "أن الأردن هو الأردن، وفلسطين هي فلسطين".

لكن المصطلح إياه، يعود اليوم ليطل برأسه البشع فوق أكثر من سماء عربية، وتحديداً في دول الأزمات المفتوحة، حتى أن البعض منّا بات يلوذ به، بوصفه طريقاً مختصراً لوقف حالة التدهور والانتحار الجماعي، ومنع الانزلاق إلى درك أسفل، وصون ما تبقى من مظاهر الوحدة والسيادة والاستقلال في دول ما بعد الاستقلالات، والإبقاء على "لاصق ما" يجمع الكيانات والمكونات المُشكّلةِ لمجتمعاتنا، بعد أن تلاشت "الهوية الوطنية الجمعية" أو تكاد.

في سوريا على المثال، وبعد الخشية العميقة من مخاطر تقسيم البلاد، وما يمكن أن تطلقه من مفاعيل "مبدأ الدومينو" في الإقليم برمته، وليس في دول الجوار العربي فحسب، يبدو أن "التقاسم الوظيفي" هو الخيار الذي تدفع باتجاهه، أطراف عديدة، صديقة وعدوة للنظام في دمشق... كأن تتوزع سوريا على خمسة مناطق نفوذ: جنوبها الغربي، حزام أمني لإسرائيل... شمالها الغربي منطقة نفوذ لتركيا وحزاماً أمنياً لها يمنع تشكل كيان كردي متصل جغرافياً... شرقها وشمالها الشرقي (شرق الفرات)، منطقة نفوذ للولايات المتحدة، بالاعتماد على أكراد سوريا، مستلحقة بالعراق، وتحتضن قواعد البنتاغون وعناصره، وبهدف ابتزاز روسيا وإضعاف تركيا وتقطيع أوصال النفوذ الإيراني وطرقه في المنطقة... منطقة الساحل ملعب لنفوذ روسيا وقواعدها المستدامة (49 سنة)... دمشق ووسط سوريا، ملعب مشترك روسي – إيراني، بما لا يبقي مساحة خاصة بالسوريين على أرضهم ووطن آبائهم وأجدادهم.

الصورة في العراق تسير في هذا الاتجاه، وإن بأشكال ومستويات مختلفة... إيران بنت لنفسها منازل كثيرة في بلاد ما بين الرافدين... الولايات المتحدة تبحث عن أماكن مناسبة لتثبيت 20 قاعدة وموقع عسكري في العراق... تركيا والسعودية، وبدرجات أقل، الأردن والإمارات وقطر، لديها أقدار متفاوتة من النفوذ والتأثير، خصوصاً في أوساط عرب العراق السنة، وفي المحافظات الغربية.

وفي الأنباء، أن ثمة تحركاً أوروبياً رباعياً (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وإيطاليا)، بدأ يشق طريقاً صوب اليمن، في مسعى لاستخراج الحل السياسي من بطن الخراب والدمار والموت المقيم على أرض هذا البلد ويفتك بشعبه... على أن أهم ما في الأمر، أن مجموعة “EU4”، تستلهم في حواراتها الجانبية مع الفاعلين المحليين والإقليميين في الأزمة اليمنية، أنموذج "التقاسم الوظيفي"، وهو أنموذج لديه الكثير من الحوامل الاجتماعية داخل اليمن، بعد أن اندثرت الدولة وتشظّت الهوية الوطنية إلى ست أو سبع هويات جهوية وقبلية ومناطقية، تسعى كل واحدة منها، للوصول إلى من أشكال "تقرير المصير"؟!

الوضع في ليبيا، لا يبدو خروجاً على منطق "التقاسم الوظيفي" ومنهجيته المدمرة لوحدة البلاد والعباد... ثلاثة أقاليم تتصارع فيما بينها، وتستند إلى إرث "ما قبل استعماري" من الكيانات المحلية، فيما اللاعبون الإقليميون والدوليون، يتوزعون على دعم هذه الكيانات المتناحرة، حيث تبرز هنا أدوار كل من مصر والإمارات وتركيا وقطر، في مواقع متقابلة بالطبع، وتحضر أوروبا عبر رأس جسر فرنسي – إيطالي، مدعومة من الولايات المتحدة، وتسعى روسيا من بوابة الجنرال خليفة حفتر وغيرها، إلى ترك بصمة خاصة بها، على معادلة "التقاسم الوظيفي" التي ستدور حولها، عناصر الحل السياسي النهائي للأزمة، وإن بعد حين.

في جميع الحالات المشار إليها سابقاً، يستند "التقاسم الوظيفي" إلى إرث تاريخي طويل، لم تعمل دول ما بعد الاستقلال على تبديده، من أشكال الحكم المحلي والجهوي، من إمارات وممالك و"إمامات" محلية، متعايشة ومتصارعة... ومع انهيار قبضة الدولة المركزية في هذه الدول، الأمنية أساسا، استيقظت الهويات الفرعية القاتلة، واستُعيدت معها خرائط إمارات وممالك ما قبل الاستقلال، وعملت القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على توظيف هذه الانقسامات، لخدمة مصالحها وتعظيم نفوذها، وإدارة "حروب الوكالة" من خلالها، والأرجح أن خطوط "التقاسم الوظيفي" سترتسم وفقاً لخطوط القبيلة والطائفة والمذهب والأثنية والعشيرة والولاءات الجهوية... ولأنها خطوط متداخلة وغير "قارّة" بعد، فإن كثير من المواجهات والمعارك ستخاض من أجل الترسيم النهائي لخرائط الحل النهائي، والتي هي ذاتها، خرائط "التقاسم الوظيفي" على ما يبدو.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق