q

لبنان الصغير، يستقبل وزير خارجية الدولة الأعظم بموقف كبير: لا تفريط بشبر واحد من اليابسة أو المياه الإقليمية اللبنانية، ولا تنازل عن برميل نفط واحد، في "البلوك رقم 9" الذي تسعى إسرائيل لقضم 860 كيلومتر مربع منه... لبنان المنقسم على نفسه دوماً، يقف موحداً في وجه محاولات إسرائيل بناء جدار اسمنتي عازل، تقضم بعض أجزائه قطعاً من الأراضي اللبنانية، فيما الأعين، كل الأعين مفتوحة على ترسيم الحدود البحرية مع دولة التوسع والاحتلال التي تسعى في نهب جزءٍ من ثروة لبنان النفطية.

قبل أيام، كان ديفيد ساترفيلد، مساعد وزير الخارجية الأمريكية في زيارة للبنان، سعى من خلالها لتسويق المطالب الإسرائيلية التوسعية، كعادة الموفدين الأمريكيين دائماً، وبدا أن الرجل كمن يضع اللبنانيين أمام خيارين: اقبلوا بما تعرضه عليكم إسرائيل أو قامروا بفتح أبواب جهنم عليكم، إن تحركت جحافل الجيش الذي لا يقهر.

واليوم سيمر الوزير ريكس تيلرسون ببيروت، في إطار جولته الإقليمية، لا ندري إن جاء بعرض أفضل من ذاك الذي حمله مساعده، لكنه بالتأكيد سيذكر اللبنانيين بالحاجة لـ"قصقصة" اجنحة حزب الله، ونزع سلاحه والمضي بتطبيق القرار 1701 بحزم، وتكريس سياسة "النأي بالنفس"، بما يعني الابتعاد عن إيران والاقتراب من محور "الاعتدال العربي"، إلى غير ما هنالك.

بين الزيارتين، ساترفيلد وتيلرسون، سقطت الطائرة الإسرائيلية، ووقفت المنطقة على حافة هاوية جديدة وحرب أخرى، وبدا أن قواعد جديدة للاشتباك في طريقها للترسيم، وأن جميع الأطراف تسعى في ترميم قدراتها وصورتها الردعية، ولعبة عض الأصابع ما زالت جارية حتى الآن.

بصوت واحد، تحدث الرؤساء الثلاثة (عون، بري والحريري)، ضد التهديدات الرعناء التي صدرت عن وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان: لن نلتفت لهذا النباح، ولدينا ما يكفي من أوراق القوة لإجهاض المرامي التوسعية لدولة الاحتلال والعنصرية... ومن خارج الترويكا، بدت لافتة المواقف التي صدرت عن قادة مسيحيين، من أمثال الرئيس الأسبق أمين الجميل ورئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، ممن رأوا ذات يوم، قبل أربعة عقود، أن إسرائيل يمكن أن تكون حليفاً يستعان به... جميعهم عزفوا اللحن ذاته، ورددوا العبارات ذاتها، وإن اختلفت اللهجة والنبرة.

لبنان الذي أدان العدوان الإسرائيلي على سوريا، رفع شكوى إلى الأمم المتحدة بهذا الخصوص، وسيطالب الرؤساء الثلاثة الوزير تيلرسون، بممارسة ضغط على إسرائيل لوقف انتهاكها للأجواء اللبنانية، والابتعاد عن حقوق لبنان في المياه واليابسة والثروة الطبيعية... لبنان أول بلد عربي، يطرد الاحتلال الإسرائيل عن أرضه، من دون قيد أو شرط، ومن دون صلح أو مفاوضات أو اعتراف بإسرائيل (أيار 2000)... لبنان الصغير هذا، كبير، بل وأكبر من دول كبيرة، كان من المنطقي أن تتصدى هي بالذات، للغطرسة الإسرائيلية، وأن تنهض قبل غيرها، بالرد على قرار ترامب بشأن القدس... أقوى موقف عربي طرح في مجلس وزراء خارجية الجامعة العربية بشأن القدس، كان للوزير جبران باسيل، وتلكم من مفارقات الزمن العربي الجاري.

السلطة الفلسطينية، الموصوفة بأنها بلا سلطة ولا سيادة، الرازحة تحت جلد الاحتلال، المتهمة دوماً بالتخاذل والتفريط و"المهادنة"، لم يتورع رئيسها عن إلقاء "خطاب يخرب بيتك يا ترامب"، من على منصة المجلس المركزي لمنظمة التحرير... وأن يلوح بسبابته مهدداً بإخراج اميركا من عملية السلام طالما أنها "أخرجت" القدس من جدول أعمال مفاوضات الحل النهائي للقضية الفلسطينية، ويطوف رئيسها محمود عباس، عواصم العالم، القريبة والبعيدة، الصغيرة والكبيرة، مردداً لا للاحتكار الأمريكي لعملية السلام، لا للتفرد الأمريكي بالوساطة في المفاوضات... لا بد من مؤتمر دولي، تنبثق عنه آلية دولية جديدة، تحل محل الوصاية الامريكية المنفردة على هذه العملية.

لم تثن التهديدات الإسرائيلية العسكرية لبنان عن موقفه، ولا الإجراءات الأمريكية بحق حزب الله وبيئته الاجتماعية.... ولم تثن التهديدات الأمريكية بقطع المساعداتوتقليص موازنة الأونروا وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، السلطة عن إشهار "الفيتو" في وجه "الوكالة الامريكية الحصرية" لملف التفاوض وعملية السلام.

والمفارقة المضحكة – المبكية، أن العالم العربي الذي نهض على ثلاثة أثافي هي مصر وسوريا والعراق، قد شهد خلال السنوات العشر الفائتة، انتقال مركز ثقله إلى دول طرفية وصغيرة، ولكن غنية، ولقد عانى العرب ما عانوا، من سعي هذه الدول لفرض خياراتها، او خيارات الآخرين، على دول ومجتمعات عربية كبيرة ورائدة وتاريخية، بل وكان لهذه الدول الطرفية- الصغيرة، أدواراً تدخلية دامية بالمال والسلاح والمسلحين، متقمصة صورة "اسبرطة القرن 21" تارة ومستلهمة دور "الامبريالية الوسيطة" تارة أخرى، من دون أن تمتلك أول وأهم شرط لهذه الأدوار: الإقليم والسكان والعمق التاريخي.

اليوم، تقوم دول (أو مشروع دول) عربية صغيرة جداً في حجمها ومساحتها وسكانها بدور رأس الحربة في مواجهة العنت والعربدة الإسرائيليين وفي التصدي لرئيس منفلت من عقاله ولسانه الذي لا يكف عن "التغريد" بكل ما يسيء للشعب الفلسطيني والأمة العربية... لبنان وفلسطين، دولتان، أو شبه دولتين، صغيرتين، تأتيان بما لم تقو على القيام، مراكز الثقل التاريخي في القرار العربي، ولكن في الاتجاه الصحيح هذه المرة، وليس كما حاولت دول صغيرة أخرى، وما تزال تحاول، أن تبني لنفسها امبراطوريات زائفة فوق الأنقاض والخرائب وعظام الأبرياء في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وبقية القصة معروفة لديكم.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق