q

تشير الآية القرآنية بقوله تعالى: " ياأيُّها الناسُ إنّأ خَلَقْناكم من ذكرٍ وأنثى وَجَعَلْناكم شُعوباً وقبائلَ لِتَعارَفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم / الحجرات 13 " إلى أهمية التعايش بين المعتقدات بما يضمن احترام خصوصية كل معتقد، وبالتالي فهي دعوة صريحة للأنسنة السلمية، ولقيم الخير والتسامح.

وفي ثقافتنا الإسلامية ثمة تأكيدات وسلوكيات صدرت عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام على أهمية ترسيخ القيم الأخلاقية حتى مع احتفاظ كل إنسان بخصوصيته على صعيد المعتقد والفكر. والعالم اليوم بحسب المستجدات والتغييرات الحاصلة والمتسارعة يعيش حالات من التداخل الحضاري تتباين فيها نسب السلب والإيجاب؛ لأسباب يتعلق بعضها بالحروب الوحشية التي تشعلها الصراعات والمصالح، أو بسبب اقتصادي يتعلق بمعيشة الأفراد، أو أصلاً هناك تداخل حضاري في البلدان المتنوعة عرقياً ودينياً، فهل يمكن لنا تأشير مسارات أنسنة إيجابية للتعايش في هذه البلدان؟

لو تطرقنا في البداية إلى البلدان التي تعيش فيها المكونات المتنوعة، ولنأخذ العراق مثلاً كأنموذج أقرب؛ سنجد أن التعايش بين مكوناته تعرض لعدة اهتزازات منها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي. فالمسبب السياسي يتعلق بالتغيير الذي حدث بعد 2003 وإن كانت له سابقاً جذور مخفية. غير أن القسم الثاني من التعايش وهو المتعلق بالجانب الاجتماعي يشير إلى صورة مخيفة من صور انهيار الخصوصية، وعدم التمسك بالهوية الحضارية، بل يشير وبوضوح إلى حالة من الذوبان السلبي في خصوصية الآخر.

الحدث الأقرب الذي يمكن الاستشهاد به، هو الاحتفال الصاخب لأبناء الشعب العراقي بمختلف توجهاتهم في ليلة رأس السنة الميلادية. ولسنا هنا في مورد الاعتراض على الاحتفال أو إقامة طقوس الفرح لشعب أنهكته الحروب والسياسات الخاطئة والفاسدة، بل إننا نؤشر ومن باب رصد الظواهر ومعالجتها فكرياً على آليات هذا الاحتفال، والسلوكيات التي تصدر عنه من قبل الأشخاص غير المعنيين بنسبة كبيرة بمناسبة الاحتفال. فليلة رأس السنة على مستوى المعتقد الديني هي خاصة بأتباع الديانة المسيحية، ومن الجميل والإنساني أن نشارك الأخوة المسيحيين في مناسباتهم مثلما هم شاركوا ويشاركون في مناسباتنا الإسلامية بإيجابية، وكلنا نتذكر مواقفهم الرائعة خلال السنوات الماضية والتي صادفت فيها ذكرى رأس السنة الميلادية وولادة السيد المسيح عليه السلام متزامنة مع ذكرى عاشوراء، وكيف أنهم بإنسانية عالية أجلوا احتفالهم احتراماً لمشاعر المسلمين. لكن لم نر أن المسيحيين بالغوا في حزنهم على قضية عاشوراء وصاروا في حزنهم أكثر من المسلمين، بينما رأينا ونرى تلك المبالغة من قبل المسلمين في الاحتفال بهذه المناسبة المسيحية الجذر لدرجة أنهم (المسلمين) صاروا مسيحيين في احتفالاتهم أكثر من المسيحيين أنفسهم، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أنسنة فارغة من محتواها الحقيقي القائم على التعايش والتسامح والقبول بالآخر، لنكون إزاء أنسنة تذوِّبُ الأفراد سلبياً في خصوصيات الآخر فنحصل مستقبلاً على نتيجة مؤداها هوية هجينة.

وليس لنا إغفال دور العولمة في التذويب السلبي في معتقدات الآخرين، فالظواهر الاتصالية الحديثة اختزلت المعتقدات بما يتناسب مع مشروع الاستعمار الفكري، فأحدثت صورة نمطية رسَّختها في أذهان الأفراد من ان المعتقد الإسلامي هو معتقد عنفي يقوم على إجبار الآخر باعتناق الإسلام بقوة السيف أو دفع الضرائب الباهضة، في حين رسمت للمعتقد المسيحي صورة الحرية والانفتاح حتى وإن كانا بصورة منفلتة.

أكثر مشيء تعمل عليه العولمة هو " تقسيم النوع البشري على محور واحد، ويرون الأفراد والجماعات إما أصدقاء أو أعداء، ويتجاهلون عامة الناس وروابطهم المتداخلة. وبما أن كل مالديهم هو هوية واحدة، فقد أصبحت تستحوذ عليهم ويتشبثون بها باستماتة، ويخشون باستمرارمن أن قهرها أو اختفائها قد يزعزع استقرار حياتهم، ويجردهم من جميع المعاني وهم يصونونها بشدة ضد التهديدات الخارجية، ويطهرونها من العناصر الداخلية الغريبة، متخذين وجهة نظر مبسطة جداً وغير مستدامة، وعوضاً عن أن يمتلكوا هوية، فإنها تمتلكهم"1.

وبهذا التقسيم للنوع البشري؛ تتأصل الصورة النمطية ويتم الضغط باتجاه ترسيخها، بينما

الحقيقة التي تُحْجب بفعل العولمة الاتصالية هي عكس ذلك تماماً، فليس كل المسلمين قتلة ومتطرفين وعنفيين، مثلما ليس كل المسيحيين منفلتين ، فثمة صور مضيئة لأبناء الديانتين السماويتين تسكت عنها العولمة، بل تجتهد في إخفاء ملامحها؛ حتى لا يتعرض مشروعها للانهيار، ولعل أبرز مصاديق الصور المضيئة؛ ذلك الالتحام الفاعل بين المسيحيين والمسلمين في صد إرهاب الجماعات التكفيرية المتطرفة، إذ تشكلت قوة من أبناء الطائفة المسيحية لتنضم لتشكيلات تشكلت بفعل فتوى أطلقها رجل دين مسلم. مثل هذه الصورة الرائعة للإنسانية هي التي ينبغي التركيز عليها وإبرازها. بينما تفعل العولمة الاتصالية العكس، فالمسلم الذي يريد أن يبعد عنه التهمة المترسخة عولمياً في الذهنية العامة، فإذا أراد أن يقال عنه أنه إنساني ومعتدل فعليه الرقص والغناء والسكر في ليلة رأس السنة الميلادية. ومثل هذا التصور لم ينعكس فقط على الشبان المراهقين الذين قد نلتمس لهم عذراً بسبب الفوضى الثقافية والفكرية، الأخطر هو ان ذلك التصور انعكس حتى على رجال مُسنيين لدرجة أن رجلاً في العقد السادس من عمره حضر الاحتفال وهو ثمل بصحبة زوجته والبنته التي رفعها على أكتافه وهي ترقص منبهرة بأجواء الغناء في مكان شغل فيه المسلمون نسبة 80% أو أكثر!

------------------------------
1:بيكو باريك، سياسة جديدة للهوية، ترجمة وتقديم: حسن محمد فتحي، ص50

اضف تعليق