q

اواخر سبعينيات القرن الماضي، حيث وصل نشاط اغلب حركات التحرر في العالم نهاياته، كنت كغيري من الناس، اتابع ما يحدث من خلال التلفزيون. ومن بين ما كنت اتابعه، نشاط الزعيمين الوطنيين او هكذا يصفهم الاعلام وقتذاك، روبرت موغابي وجوشوا نكومو، ضد نظام روديسيا العنصري، حيث استقلت تلك الدولة (روديسيا الجنوبية) عام 1965 عن بريطانيا، ولكنها ظلت بقوانين عنصرية على حساب ابناء البلد الاصليين. وقد رسخت في ذهني صورة الزعيمين، اللذين حققا هدفهما بعد مفاوضات شاقة، اتت على خلفية نضال مرير من اجل المساواة بين البيض والسود، وجرت انتخابات عامة في العام 1980 بعد عودة موغابي وجوشوا نكومو الى بلدهما في العام 1979 اذ انتهت حقبة التمييز العنصري، وبدا عصر الدولة الجديدة التي عاد اسمها زيمبابوي، وفاز موغابي بمنصب رئيس الوزراء. لكن شهوة السلطة بدأت تستولي على الرجل الذي دب الخلاف بينه وبين رفيقه نكومو، وصلت الى حد اتهامه الاخير بتخزين السلاح في مزرعته للاطاحة به. وقد اشعرتنا تلك الاخبار بالاحباط لما الت اليه الامور في هذا البلد الذي اسعدنا تحرره من العبودية، قبل سنوات قليلة.

بعد عقد من الزمن تحرر الثائر العظيم نيسلون مانديلا من سجنه، وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ جنوب افريقيا، حيث انتصر الثوار هناك، بعد رحلة كفاح شاقة ضد نظام بريتوريا العنصري، ووصل مانديلا الى السلطة في اول انتخابات عامة، جرت هناك، شارك فيها البيض والسود معا، بعد انتهاء نظام الفصل العنصري. وقبل انتهاء ولايته الاولى، اعلن مانديلا عدم ترشحه لولاية ثانية، فاسحا المجال لغيره، وضاربا مثلا في نكران الذات، ومؤكد انه لم يكن يسعى في نضاله للحصول على السلطة. وهكذا صار هذا المناضل ايقونة عالمية، بينما كان زميله موغابي قابضا على السلطة، ويتفنن في كيفية البقاء فيها، من خلال سنّه القوانين والتشريعات التي تؤبد بقاءه رئيسا للبلاد. ومع مضي الاعوام، صارت الاخبار التي تأتي من هناك تطفئ، شيئا فشيئا، ذلك الوهج، الذي افرحنا حين اضاء الطريق لذلك الشعب المقهور وهو يتحسس طريقه الى الحرية والحياة العصرية.

لم يتعلم موغابي من مانديلا ولا من غيره من الثوار الذين كبروا في عيون شعوبهم والعالم حين زهدوا بالسلطة لصالح مشروع الدولة الذي ناضلوا من اجله. ولم يعد زعيما وطنيا بل غاصبا للسلطة ومستثمرا لها، لاسيما بعد اتهامه من قبل ابناء شعبه، بانه استعاد المزارع من المستوطنين البيض المغتصبين لها، ليسلمها الى مغتصبين اخرين مقربين منه، ليعزز من خلالهم سلطته، التي ظل متشبثا بها حتى بعد ان تجاوز التسعين بثلاث سنين، قبل ان تنتزع منه بطريقة مهينة، اخفت تماما صورة موغابي الثائر، لاسيما عند اولئك الذين كانوا يتابعون نشاطه النضالي الذي بدا منذ ستينيات القرن الماضي وربما قبلها، وستبقى في الاذهان صورة الرئيس المخلوع، بعد ان طمس بيده صورة موغابي، الزعيم والوطني الثائر.

لقد دافعت في مقال سابق، كتبته قبل نحو سبعة عشر عاما عن موقفه من استعادة الاراضي المغتصبة من البيض، لكني لم اعرف ولم اتوقع ابدا انه سيسلمها الى المقربين منه، او هكذا نقلت لنا وسائل الاعلام ما يدور هناك، بالرغم من عدم تصديقنا لكل ما نسمع او ما تنقله لنا الاخبار. لكن صورة الشارع الزيمبابوي الذي احتفل بازاحة موغابي عن السلطة، انهت الشك باليقين، مثلما انهت بشكل مؤلم رحلة ثائر اضاع فرصة ثمينة ليبقى ماثلا في قلوب الناس وليس جاثما عليها!

العبرة التي تقولها لنا حكاية موغابي، انه ليس كل ثائر على الظلم، هو بالضرورة يكرهه او رافضا له، بل ربما لانه لا يملك الوسيلة او القدرة على ممارسته، وان السلطة والمال هما المعيار الذي تقاس به النفوس، لتعرف ان كانت كبيرة تنوء بها الاجسام، كما يقول طيب الذكر المتنبي، او صغيرة لا تشعر بها الاجسام المثقلة بالشهوات وحب التسلط.

سأغفر لك الكثير من اخطائك بحق نفسك ياسيد موغابي، لانك تشغل حيزا جميلا في ذاكرتي، اكره ان اعود اليه فأراه مشوها، وهذا من حقي الشخصي، ولكني لا استطيع ان افرضه على شعبك، بالتأكيد!

اضف تعليق