q

يصر البعض من متبني الحداثة وفق المزاج الغربي أن يقطع الصلة كلياً بالأخلاق، وهذا الاصرار ناجم عن الاعتقاد بأن الأخلاق شيء قديم وتقليدي، ويعود في مرجعيته إلى الدين، على اعتبار أن الدين قيد يعيق حركة الحداثة ويمنع عجلتها من الدوران. لذلك كان السعي التجديدي إلى تفصيل أخلاق تلائم المقاسات الحداثية بعيداً عن الأخلاقيات التي تنتمي للجوهر الديني. وبدأت مساعي الحداثة المتجردة من الأخلاق من أهم ركائز المجتمع، وهي ركيزة الأسرة باعتبارها من مناشىء الأخلاق الأساسية والرئيسة، وأنها الجذر القوي الذي تقوم منه شجرة العلاقات الإنسانية. والتلازمية بين الأسرة والأخلاق؛ تجعل من صمودها وعدم تفكيكها عائقاً يقف بوجه التطلعات الحداثية.

وقد تمت برمجة الانفصال الكلي عن الأخلاق عبر مبادىء ارتكزت على أن يعتمد الإنسان على نفسه في كل الأمور، وهذا المبدأ معناه ضرب الفطرة الإيمانية بالغيب تمهيداً لإيقاع الإنسان في شراك الماديات التي ستجعل منه كائناً دنيوياً ضارباً بعرض الجدار مفهوم الآخرة، حيث تتركز في ذهنيته القلقة والمضطربة مقولة أن الدنيا هي خلاصة حقيقة الإنسان وسر وجوده، لذلك لابد عليه أن يجتهد في التقدم من أجل الدنيا، لا من أجل مايعتقدونها خرافات، وبذلك تتم الخطوة الثانية من فصله عن أخلاقه وفطرته، وكل ذلك طبعاً يتم بواسطة إيهام سلطة العقل التي يجب أن تكون هي الحاكمة الفعلية.

وقلنا سابقاً في قضية العقل، أن جهوداً تحاول أن تثبت الاستعلاء العقلي على كل قيمة ثابتة، خصوصاً من أصحاب نظرية (الفكر التركيبي) القائلين بأن الازدواجية محفز هائل للتقدم والتطور والتغيير، مشددين على انفصالية العقل عن الحس.

إن القول بهيمنة العقل ماهو إلا محض غرور فلسفي انبهر بالإنجازات التقنية والاتصالية التي حاولت العبث بالمسلمات اليقينية والشك بها؛ لذلك يلزم القول بأن السلوك القويم هو الذي تكون فيه الأخلاق محددة له وأن العقل فيها جزء من منظومتها، فكلما تحسنت الأخلاق تقدمت الإنسانية، بينما إذا تقدمت العقلانية من دون سياقها الأخلاقي فإنها قد تقلب الاشياء إلى أضدادها كما ذهبنا في بداية الكلام، إذ لا تستطيع التقنيات الاتصالية الحديثة مثلاً وهي من إبداع العقل الإنساني أن تحل مشكلة الشذوذ الجنسي على سبيل المثال، وهي ممارسة أقل مايقال عنها أنها نقيض العقل إلا إذا كان للتجريديين قول آخر، وهم الذين اجتهدوا في فصل القيم عن الأخلاق وإلحاقها بالعقل المجرد من أجل عمل خلطة فلسفية غير منسجمة تحت مسمى (الحياد الأخلاقي) الذي يقصي كل ماله شأن بالأخلاق التي يعتبرها الحداثيون (تقليدية دينية)، في حين أن هذا الحياد المزعوم مجرد قناع تم كشفه عبر التجارب المجتمعية الكثيرة التي تبنت العلمانية وظلت تتعاطى مع القيم الدينية الحاضرة بقوة في مجمل الفعاليات الحياتية حتى صار التبني العلماني حالة تناقض يشار إليها ببنان واضح خصوصاً مع بعض طروحات الحداثويين العلمانيين.

نحن نعتقد أن شعور الفرد بالمسؤولية تجاه مجمل القضايا التي تمس الواقع الإنساني كفيل بإيجاد حلقة التلاقي والتواصل بين الحداثة والأخلاق، وهذه النقطة وفقاً للشعور بالمسؤولية ستكون عصية على كل محاولات الفصل بين المفهومين، أو التفلسف بفصلهما تحت ذرائع وحجج تنظيرية لا تصمد أمام الواقع. وبدون هذا الشعور فإن منظومة الحداثة ستكون معرضة لخطر التحلل بعد أن يتم تسويق الانحلال على أنه من خصائص هذه المنظومة، بحيث تكون الفكرة المادية مرجعها الأحادي المسيطر على ذهنية المتأثرين، فضلاً عن ضرب السمات البشرية، والمقومات الفطرية، بل التمرد على جنس الإنسان؛ لأن المنظومة الحداثية المنفصلة عن الأخلاق، تتيح للذكر أن يتحول لأنثى وبالعكس، بل حتى تتمرد على طبيعة العلاقة الزوجية الطبيعية، فيمكن حداثياً زواج الجنس من الجنس نفسه، وهذا ماتم تنظيمه بقوانين تعد اليوم من قوانين التقدم والرقي والتحضر البشري كقانون زواج المثليين في بعض البلدان الغربية.

كما أن الانفصال عن الأخلاق عند الحداثيين؛ اتخذ أشكالاً أخرى جديدة تمثلت في اللعب على اللغة وانتاج المصطلحات المثيرة والداعية إلى مركزية متطرفة للجنس البشري، والتي تحولت فيما بعد إلى عقيدة كعقيدة (الأنوثة) التي تطورت لاحقاً إلى (الجنوسة)، والتي تدعو إلى أن تكون المرأة أولاً في كل شيء؛ وذلك لإدامة زخم الصراع مع الجنس المقابل (الذكر)، وكل ذلك طبعاً من أجل تقويض سلطة الأب أو الزوج تمهيداً لإلغائها كلياً حتى الوصول إلى هدف استحالة التواصل بين الجنسين، وهذا بحد ذاته خلاف الطبيعة البشرية، لكن لحداثة اللاأخلاق رأياً آخر. والغريب فعلاً؛ هو ذلك التماهي الثقافي والفكري مع هذا العبث اللغوي والاصطلاحي، لدرجة التصديق به، والكتابة فيه كأنه من الفتوحات المعرفية، وليس جرعةً من جرع الخدر الفكري والثقافي التي يراد تسويقها للذهن الشرقي، عبر مُسَلَّمات تتأرجح بين الماركسية والفرويدية ، بعد أن هيمنت على الدراسات النقدية والثقافية مصطلحات من قبيل: (تأنيث الذاكرة) و (تأنيث المكان) و (اللغة الأنثى)، فصار لنا نقاد ومفكرون يعرضون أو يروجون لأنفسهم في سوق الانقلاب على القيم والأخلاق والفضيلة، بدعوى التحرر والحداثة.

اضف تعليق