q

عقود طويلة والتشدد الديني يسيطر على الفضاء الإجتماعي العام في المملكة العربية السعودية وهو ما انعكس سلباً على صورة المملكة أمام الرأي العام الدولي، خاصة بعد تصاعد عدوان التنظيمات الجهادية كتنظيم القاعدة وأخواتها ضد البلدان الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية، وعدد من البلدان العربية والإسلامية.

هذه التنظيمات الجهادية تشترك مع العقيدة السائدة في المملكة العربية السعودية بالعديد من المشتركات العقائدية والفقهية التي أرسى تعاليمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب منذ البدايات الأولى لتأسيس المملكة في القرن الثامن عشر، وسار حرفياً على ذات النهج فقهاء ورجال دين، وخضعت بذلك أيضا كل البنى المدرسية والمؤسسات التعليمية الرسمية والدينية في المملكة لنهج التشدد الديني في قصة طويلة تعود جذورها إلى أقطاب المذهب الحنبلي كابن تيمية، وابن عثيمين، وابن باز، وآل الشيخ، وزمرة من المشايخ المعاصرين المسيطرين والمدعومين بالصلاحيات والأموال المعروفة اليوم بالمؤسسة الدينية التي تتحكم بالمجتمع السعودي من خلال أدواتها الدينية كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأئمة الجمعة والجماعة، والهيئات الخيرية، والدعوية، وجماعات التبشير بالآيديولوجيا الوهابية المنتشرين في أغلب دول العالم.

أسهمت هذه المؤسسات الدينية، وهؤلاء الدعاة بأجيالهم التأريخية في جعل المملكة بؤرة للتشدد، والعنف الديني، ومنبع للكراهية، والتكفير، وخنق الحريات، وإنتشار ثقافة المحرمات الإجتماعية كـ(تحريم السينما، وقيادة السيارة للمرأة)، وسيادة نمط الإقصاء للمختلف دينياً، ومذهبياً، وثقافياً، والتمييز ما بين السلفي وغير السلفي، وهو ما بدا أن المملكة مختلفة حتى عن النسق الخليجي كالكويت، وعُمان، اللتان يعترفان بالتنوع الديني، والمذهبي، والحريات الشخصية، وحق الإنتخاب التشريعي، وسياقة السيارة للمرأة ولا تكمن خطورة سيادة الخطاب الدعوي في داخل المملكة فقط، وإنما إنتشر على مساحات واسعة من العالم أثر الدعم الرسمي من قبل حكام المملكة.

وبعد مجموعة من المتغيرات السياسية، والأمنية، والثقافية، التي يشهدها العالم اليوم عرض ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يوم الثلاثاء 24 أكتوبر 2017، خلال مشاركته في جلسة حوارية ضمن اليوم الأول من منتدى (مبادرة مستقبل الإستثمار) خطته في قيادة المملكة بصورة جديدة بالعودة بها: "إلى ما كنا عليه، الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم".

يأتي هذا الخطاب بعد أن أعلن الأمير الشاب خطته الإقتصادية في 2016، تحت مسمى (رؤية 2030) تقوم على تنويع الإقتصاد المرتهن للنفط. وبعد حل مسائل إجتماعية أخرى كالسماح للمرأة بقيادة السيارة، وتفعيل دورها في الحياة الإقتصادية، يحاول ابن سلمان أن يطرح نفسه للداخل والخارج بعد إقصاءه لولي العهد محمد بن نايف بأنه أفضل من سيقود مملكة معتدلة، ومتحررة من الأفكار المتشددة، وتستجيب لتطلعات مجتمع سعودي شاب. متعهداً بعدم التعامل مع أي أفكار مدمرة، بل تعهد بتدميرها: "سوف ندمرها اليوم وفورا".

وبالرغم من شيوع ثقافة الكراهية السائدة في المملكة إتجاه التنوع المذهبي والفكري والتيارات السياسية القومية منذ أن امتزجت ثقافة القبيلة بالعقيدة (الإسلام الوهابي) في الداخل السعودي والخوض في صراعات ذات صبغة دينية ــ قومية مع مصر، واليمن، والعراق وإستباحة دماء أهله ومقدساته، إلا أن محمد بن سلمان حاول أن يربط شيوع ثقافة الكراهية والتشدد (الأفكار المدمرة) إلى الإفرازات السياسية والحركية لعام 1979 أثر إنتصار الثورة الإيرانية، لكن تاريخ الكراهية الدينية في المملكة ومن ثم تصاعدها في المنطقة تعود إلى ما قبل هذا التاريخ بفعل النمط التعليمي الديني السائد في البلدان العربية وفي مقدمتها السعودية، ففي آخر تقرير ذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش في 26 أيلول 2017 "إن المناهج الدينية لوزارة التربية والتعليم إضافةً إلى وسائط التواصل والمعلومات الإلكترونية فيها إشارات مهينة وتمييز للإنتماءات الدينية الأخرى بما فيها اليهودية، والمسيحية، والصوفية، والشيعية، عبر الإشارة إليها بألفاظ مهينة أو شيطنتها في الوثائق الرسمية والأحكام الدينية التي تؤثر على صنع القرار السياسي".

وإذا كان صانع القرار السياسي في المملكة جاداً ويغض النظر عن الدافع الأساسي في مطلب تغيير الحياة الدينية الراهنة والموصوفة من قبل ولي العهد بالمتطرف إلى دين الوسطية والإعتدال، والسير بالمملكة إلى الحياة الطبيعة كما قال محمد بن سلمان فانه سيواجه تحديات داخلية كبيرة خاصة من المؤسسة الدينية المتغلغلة في الحياة العامة، وتغيير طريقة الفهم الديني -العقيدي المنغلق على تراث السلف السائدة في المؤسسات التعليمية جميعاً في المملكة التي بنيت على أساس فهم عقيدي- أحادي قائم على إحتكار الحق إتجاه كل من الأديان، والمذاهب، والطرق، والثقافات الأخرى، والتطورات الإجتماعية المعاصرة.

ولعل ما يمنع من سيادة ثقافة التمييز والكراهية على أساس الدين، والعرق، والعقيدة، والمذهب، والحضارة، هو إيجاد الضابط القانوني عبر الإسراع بتشريع قانون لمكافحة الكراهية والعنف باسم الدين في المملكة بعد أن بادرت أثناء زيارة الرئيس الأمريكي ترامب للرياض بتأسيس مركز لمكافحة التطرف في المملكة لتقويض مغذيات الإرهاب، وإذا ما سارعت السعودية في تشريع قانون لمكافحة الكراهية والتمييز الديني فإنه يشكل إضافةً إلى مركز مكافحة التطرف عاملان مساعدان في تحقيق مشروع محمد بن سلمان في مملكة معتدلة، وتعيش حياة طبيعة كما جاء في خطابه.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2017Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق