q

1. في البدء: السياسات الإعلامية ودور المحلل السياسي

هنا بيروت، عاصمة الأنارشيا بنكهة عربية، تلك التي شكّلت فرصة تاريخية للكائن العربي تحديدا، أو لنقل الرئة التي لا يتنفس من خلالها اللبنانيون وحدهم بل هي الرئة التي يتنفس من خلالها الأحرار العرب وحتى غير الأحرار العرب، فهي جغرافيا التعبير عن الإرادات، ولهذا كانت الثقافة والإعلام والنشر لها هاهنا حكاية تفرّد، هنا في عاصمة الصناعة الإعلامية العربية كان اجتماعا حافلا بالأفكار ذلك الذي جمعنا قبل أيّام على مائدة النقاش حول العلاقة بين المحلل السياسي ووسائل الإعلام في إطار اجتماع الهيئة التأسيسية للرابطة الدّولية للخبراء والمحلّلين السياسيين قصد تحيين هذا الإطار ومناقشة القانون التأسيسي وميثاق الشّرف وخطّة عام 2017.

النصف الأوّل من اليوم تضمن جلسات تتعلق بدور المحلل السياسي في صناعة الرأي العام وعلاقته أيضا بوسائل الإعلام ساهم فيها أصدقاء وزملاء من داخل مؤسسات الإعلام المتنوّعة ومحللين سياسيين من مشارب وخبرات مختلفة، هذا في حين انحصر اجتماع النصف الثاني من اليوم في مناقشة الوثائق المذكورة في إطار مغلق خاص بالهيئة الإدارية وهو ما كان يعالج تفاصيل البنود ولغة الوثيقة وبعض القضايا التفصيلية حيث انتهى إلى الكثير من التوافقات فضلا عن انتخاب أعضاء الهيئة الإدارية من بينهم رئيسا للرابطة خلال الفترة القادمة.

وفي جملة النقاش الذي كان يتعلّق بالآراء والأفكار لم يكن هناك من الوقت الكافي لتحقيق القول في مشكلية الإعلام ودور المحلل السياسي ومن هو الخبير ومعضلة صناعة الرأي العام، وهنا سأحاول أن أعيد تنظيم مداخلاتي ومناقشاتي التي ساهمت بها في هذا النقاش الذي لم يكن الوقت كافيا لتعميق الفكرة وتحقيق البلغة، سواء في اللقاء العام أو في اجتماع الهيئة التأسيسية التي أصبحت بقوّة الواقع هي الهيئة الإدارية المعنية باتخاذ القرارات، وهو الوضع الذي فرض نقاشا عاما في قضايا تتطلّب تفصيلا دقيقا. وستكون مناسبة لتنسيق القول في دور المحلل السياسي ودور الإعلام عموما وبعض المشكلات التي تخصّ رسالة المحلل والخبير السياسي:

2. المحلل السياسي ووسائل الإعلام

في أثناء مناقشتي لبعض الأفكار التي طرحت في مداخلة العديد من الباحثين حاولت التركيز على الحاجة المتبادلة بين المحلل السياسي والوسائط، لأنّ المحلل السياسي هنا ليس بالضرورة موظّفا في وسائل الإعلام بل قد يكون صاحب رأي ويمتلك خلفية (background) يتشّكل من أدوات التحليل وقاعدة معلومات تمكنه من المتابعة وتعزيز مضمون التحليل. الحاجة هنا متبادلة ولكنها ليست متكافئة لأسباب تكمن في اعتبارات خارجية وحسابات ميديولوجية باعتبار أنّ الإعلام لم يعد مجالا محايدا بل هو جبهة صراع مفتوح بتقنيات ناعمة. لكن بالجملة لا تستغني وسائل الإعلام عن المحلل السياسي ولا هذا الأخير بإمكانه أن ينقل رأيه من دون توسّل بتلك الوسائط. وفي صلب هذه الحاجة المتبادلة يكمن التدبير المختلّ للعلاقة، لأنّ سلطة وسائل الإعلام تُمارس بشكل أو بآخر على المحلل السياسي نفسه، قد يقال حينئذ أنّ الأمر تجاوز ما وصفه راموني بنهاية الصحفي بل إلى المدى الذي سنتحدّث فيه عن نهاية الخبير والمحلل السياسي.

وهنا أتساءل مرّة أخرى كيف تحوّلت الوسائط من تقنية عامة لتسهيل التواصل إلى علم ثم إلى أيديولوجيا وسيطرة.. هل نحن بالفعل متواصلون وهل ما تقوم به وسائل الإعلام هو تواصل أم لا تواصل، أي شكل من "البلوكاج" في المعنى وفي وسائل وصول المعلومة إلى المتلقّي؟ الحديث اليوم لا يقف عند سؤال التقنية بل يتعلّق بمفهوم التواصل وأيديولوجيا السيطرة والمهام الذي تقتضي تحرر المحلل السياسي نفسه من سلطة الوسائط، الأمر الذي يبدو في غاية الصعوبة. وهذه قضية لم يعد لها علاقة بالتقنية والإعلام بل وجب البحث عنها في الاقتصاد السياسي للمعلومة. إنّ المفاهيم هي الأخرى ليست مشكلة لأنّنا نعيش عصر التّضخّم الهائل في سوق المفاهيم، وغياب الجودة في تأسيس المفاهيم على مداميك فلسفية منتجة، بل اليوم وجب الانتقال من مسألة إنتاج المفاهيم إلى مرحلة إدارة المفاهيم، وفي هذه المرحلة لا تقلّ مهمة إدارة المصطلح عن مهمة إدارة الأزمات، لأنّ الجزء الأساسي من الأزمات يدور مدار المصطلح. تدخل الأيديولوجيا بقوة في الصناعة الإعلامية لأنّها وحدها تشد عصب المصالح، فأيديولوجيا الإعلام اليوم هي أيديولوجيا الاقتصاد السياسي بامتياز.

3. الإيديولوجيا الإعلامية ومصائر الوعي

لا أريد الوقوف عند سؤال الموضوعية هنا مع أنّني استمعت كثيرا إلى هذا المفهوم وهو يمرّ بوصفه قضية رجاء وترجّي أو أحيانا بات شكلا من الإغواء بمفهوم فقد أهميته لأنّه بات إشكاليا بينما الإصرار على تداوله بلغة تبسيطية يجعل المهمّة صعبة. ولكن وجب التذكير بأنّ الموضوعية إشكالية كبرى في العمل الإعلامي، وأنه لا مجال لتفادي هذه المعضلة إلاّ بالتفكير بصوت عالي وإحداث ثورة في مجال الإعلام وهذا غير متيسّر الآن، لأنّ مقتضى المواجهة للمقاولة الإعلامية وفق أصول المعاملة الرأسمالية عموما هو الاستناد إلى القوة المفرطة للجيش الاحتياطي من العاطلين الذين يتوفرون على القابلية للإذعان لاشتراطات وسائل إعلام تمارس مهمتها الأيديو_إعلامية بتقنيات خداع تشبه عملية استغلال أخطاء بارالاكس في تموضع زاوية النظر أو وتيرة تعقّل الصورة والمعلومة بناء على جدل التناقض بين ما يسميه إغناسيو راموني بزمن المعلومة والزمن السياسي.

نتساءل أيضا : هل يا ترى الرأي العام مغفّل أم أنه ذكي؟ أعتقد انّ الرأي العام يعمل وفق قواعد الممانعة الطبيعية، وهي ممانعة ضد التقنية اليوم. ولذا فالكثير من الرأي العام يسقط في هذه المعركة لأنها توظّف مساحات اللاوعي لدى المتلقّي الذي يبدو مؤهّلا للمساهمة في الانزياح الموضوعي. بالنسبة إلى التدبير الأيديولوجي للمعلومة فهو هنا ليس بسيطا، بل هو فعل عقلي يستند إلى ما تحتله الأيديولوجيا من مكانة في الدّماغ: أي القابلية للزيف. إنّ القابلية للزيف تكمن في عمق الطبيعة التي يعمل على وفقها الدماغ الذي تأتيه الصور والأفكار معدّلة بأخطاء التموقع من الواقع أو مستوى قدرة الفاهمة على تحويل الإشارة إلى مفهوم دقيق. يساهم الإعلام الذي بات الكذب فيه ليس مسألة أخلاقية بل تقنية مهنية إلى اللّعب بمقدّرات الدماغ واحتلاله بأوهام تحمل صورة الواقع كأن الأمر يتعلق بإعادة تشكيل للواقع محرّف لكنه مقنع للرأي العام في فترة وجيزة هو ما يقتضيه الزمن السياسي لاستغلال معلومة ما. لا يهم فعل تكذيب المعلومات حين تستنفذ زمنها السياسي، الأمر يتعلّق باستعمال مؤقّت للمعلومة ولا يهمّ أن تظهر الحقيقة فيما بعد، هذا ما أصطلح عليه: المعلومة التي يمكن التّخلّص منها بعد الاستعمال (information jetable). لا يتعلق الأمر بغباء بل ببطؤ في تحقيق المعلومة تعززها الرغبة الجامحة في استهلاك المعلومة في زمن سياسي لا يلتقط الفراغات في عملية قذف الصور تماما كما هو الخداع البصري الطبيعي عند رؤية الأشياء، لكنه عاجز عن التقاط ما بين الصور وما بعد الصور نظرا لسرعة حركتها وفعل الإلهاء الذي تمارسه أيديولوجيا استهلاك الخبر. يتحدّث بودريار عن معيار جديد في أيديولوجيا الاستهلاك حيث تمثّل القمامة معيارا لقياس الموقع الاجتماعي للمستهلك: قلّ لي ماذا تستهلك أقول لك من أنت، وأعتقد أنّ هذا ينطبق أيضا على استهلاك المعلومة: المعلومة -القمامة(L'information poubelle).

4. من هو المحلل السياسي الحقيقي؟

بالنسبة إلى المحلل السياسي أحبّ أن أصنفه للتصنيف النيتشي للفيلسوف: هناك محلل سياسي كادح وهناك محلل سياسي حقيقي، وقد أضيف صنفا ثالثا: المحلل السياسي المحتال، هذا الصّنف يهمّني كثيرا في هذا التقريب، لأنّه يمتلك قدرة على وضع اصطلاح على ما يروج في المجتمع ثم إعادته متلبّسا بالمفاهيم إلى الجمهور من باب : بضاعتكم ردّت إليكم. هذا الصنف لا يهتم بالتوعية ولكنه معني باستثمار المتداول من أفكار في رأي الجمهور ومنحها شرعية المفاهيم، وهو صنف تستهلكه وسائل الإعلام لأنّه غير مكلف ويؤمّن شكلا من الضجيج النظري وتكريس الإلتباس. لقد صنعت وسائل الإعلام محللين سياسيين من الطّراز المحتال، وهي تفتخر أنّها أنتجت وجوها جديدة في المشهد الإعلامي لكن وجب التمييز بين صناعة المحلل السياسي واكتشاف المحلل السياسي، ذلك لأنّ وسائل الإعلام إن هي سلكت إزاء المحلل السياسي ما تسلكه إزاء صناعة الرأي العام بوسائل الخداع الميديولوجي المتاح سنكون أمام أزمة شمولية. الصنف الكادح من المحلّلين يسعى لتنزيل أدواته على الحدث لإعادة صناعته وفق ما تتيحه له رؤيته الأداتية، لذا يقع في التكرار والجمود واعتماد فعل المراوغة باللغة الذي أسمّيه: الملاوغة. لقد أصبح التحليل السياسي رهين لملاوغات المحلل الكادح، بينما المحتال الذي يستهلك الحقائق التبسيطية للجمهور ويعيد حبكها بالاصطلاح السياسي فهو ظاهرة ترقى بصناعة الملاوغة إلى حدّ الزّيف المطلق.

أحد الزملاء ركّز على ضرورة التفريق بين وضعية الإعلام في المغرب العربي ووضعيته في المشرق العربي وأنه لا بدّ من التمييز بينهما. لكنني أعتقد أنّها إشكالية لا موضوع لها وقد تكون شكلا من البوليميك الذي يحبّ أن يستثمر البعد الجغرافي في إضافة إشكاليات جديدة لأزمة التواصل الإعلامي نحن في غنى عنها. ذلك لأنّني أعتقد أنّ أزمة الإعلام هي اليوم كونية، وما نقوله اليوم عن أزمة التواصل والهيمنة هو أمر يتعلق أيضا بالمشهد الإعلامي الغربي. التمييز على أساس أنّ هنا يوجد إعلام ممركز وهناك إعلام حرّ، لا موضوع له، لأنّ المدّعى له نصيب هنا وهناك، فضلا عن أنّ الحديث عن إعلام مستقل في حدّ ذاتها قضية متجاوزة، أي بتعبير آخر، مع الإعلام المستقل لسنا إلاّ أمام إعلام موجّه بطريقة أخرى، فالاستبداد بالإعلام قد يكون سياسيا وقد يكون اقتصاديا.

هذا دون أن نغفل أنّ وسائل الأعلام المستقلة إن صحّ التعبير في المغرب العربي هي مدينة لسياسة شراء الذّمم من الكتلة النفطية في المشرق. ومن هنا لا مجال للإخضاع إلى السياقات الجغرافية في لعبة الإعلام وسياسات بيع الذّمم لأنها باتت متعدّية الحدود.

يبدو المحلل السياسي المحتال الذي ينطّ من بين وسائل الإعلام المتناقضة الرسالة الإعلامية ويكيف خطابه وفق سياستها، بل والذي يكيّف تحليله وفق ما يتوقّع منه هو جزء من أزمة الصناعة الإعلامية اليوم. وهنا أحبّ أن ألفت النظر إلى سياسة الاختراق التي يقوم بها هذا النمط من المحللين الذين لا يتوفرون على الخبرة الحقيقية ولكنهم عبر تقنيات التواصل المختلّة يتسللون إلى وسائل إعلام الممانعة بطريقة ممنهجة بينما هم موصولون مع مراكز وجهات وسياسات رجعية في المنطقة. الأمثلة كثيرة وليس المقام مقام ذكر عيّنات لها. وهذه أخطاء يقع فيها الإعلام الذي يرى نفسه معنيّا بمقاومة الهيمنة الإعلامية الرجعية أو الغربية. المهزلة الكبرى هنا هي حينما تدقّق وسائل الإعلام في انتقاء المحلل السياسي المناسب لكنها تتراخى في انتقائه حينما يتعلّق الأمر ببلدان أجنبية عن بلد المركز، فلا يهمّ هنا أن تمنح فرصة للمحلل السياسي المحتال حيث تساهم في استكمال سياسة الحصار على المحلل السياسي الحقيقي وتصبح شاهد زور على هذا الاستنبات الطفيلي لخبراء مغشوشين.

ما زلنا نتحدث عن الموضوعية المطلقة والحقيقة المطلقة في الإعلام وهي الحقيقة التي يصعب تحقيقها في مجال التأمّل الفكري فكيف بالصناعة الإعلامية، مادام الجمهور له الرغبة في تقبّل المعلومة من دون إعمال نظر وغير معني بتكذيب الصورة والتمرد على سلطتها بالإضافة إلى غياب توازن بين القوى الإعلامية، ستستمر هذه المعضلة ولن يحسن بعد ذلك الإعلام المقاوم للزّيف أن يفعل أكثر سوى المقاومة.

نحن في سياق لاتواصلي للإعلام، الخبر الذي أذاعته وكالة الفضاء الأمريكية(نازا) قبل أسابيع مفاده أنه بات بالإمكان أن يتواصل جمهور الأرض مع جماهير الكواكب الأخرى وينقلون لهم معلومات عن حياة الأرض وثقافتها وأن هذه القضية باتت ممكنة ومتاحة لعامة المواطنين. هنا يبدو أنّنا أمام هروب إلى الأمام. في غياب تواصل حقيقي بين أهل الأرض كيف نتحدّث عن فائض تواصلي يمكننا من مراسلة سائر الكواكب؟ هذا ما أسمّيه بالطّنز الأيديولوجي الذي يساهم في لعبة الإلهاء والتمويه على إفلاس كبير في وسائل وأيديولوجيا التواصل.

على هذا الأساس ماذا يعني الرأي العام في عالم مفتوح على مساحات هائلة من الوسائط الإعلامية التي تتنافس على تحقيق الإجماع على تزييف الواقع؟

5. الإعلام ودور المثقّف

من ناحية أخرى كان الحديث عن تحكم وسائل الإعلام في المحلل السياسي الذي يشعر بأنه مضغوط تحت قهر الزمن ونوعية الخطاب، لكنني أؤكّد هنا أنّ المحلل السياسي بالمعنى الذي أعنيه من المحلل السياسي الذي له قدرة على التحليل وإنتاج الرؤية والتأثير على الرأي العام قد يجد نفسه مهانا داخل ستوديوهات وسائل الإعلام، ولذلك تفاصيل لسنا في واردها، ولكن ثمّة نوع من التحليل النفسي النازي الذي يستعمل تجاه المحلل السياسي الذي يبقى رهن لمستوى اختيارات الوسائط ووجهة نظرها في عملية انتقام المحللين إلى حدّ التكرار والاستهلاك والمساهمة في ظهور أمبراطورات التضليل والتسطيح الإعلامي واللعب على لغة التواصل المجردة عن المفاهيم، وهي عملية تجعل الجودة مسألة استهلاك وصناعة النجوم على حساب المضمون، ولعبة اللّوبيات في هذه الفوضى.

أحبّ هنا أن أؤكّد على مسألة الخوف من الاعتراف بتعقيد الواقع، لماذا نحن ضدّ العمق. التعقيد في النظر المواكب لتعقيد الواقع أمر ضروري ولكن يمكننا الحديث عن لغة التعبير الميسرة عن مخرجات النظرية. نعود إلى إدغار موران في التمييز بين المعقّد والتعقيد. أي الاعتراف بـ(complexus)، حيث بناء عليه يتمّ استغلال غير المفكّر فيه، وإخضاع الوعي لمغالطة التبسيط.

إنّ عملية تثقيف الإعلام مسألة أساسية. الإعلام حتى الآن بما أنه خاضع للعبة التواصل اللاّتواصلية فهو يستهين بالثقافة والمثقف، لذا فهو يبادر إلى صناعة بدائل ونجوم ثقافية ضحلة لتفادي هذه المعضلة مما يجعل وسائل الإعلام تسقط في استهلاك فاقد للجودة ويتّجه برسالة الإعلام إلى حيث إهانة المثقف.

أمّا انطباعاتي فهي كثيرة، كم يثيرني أولئك الذين يتحدّثون أمام مثقفين محترفين عن أفكار ومهارات كما لو أنهم عاقروها ولا قبل لغيرهم بها. يحصل هذا ببلادة تتكرّر وأحيانا تزعج العقل. قضية تكرار مفاهيم أنتجها الغير من دون أمانة الإحالة، هي حيلة من حيل حاطبي ليل يستغبون المتلقي الذي من المفترض أن تكون له لوعة إن لم نقل احترافية في تتبع هسيس المفاهيم. الحسابات الغامضة في الانتقاء وأشكال التمييز غير المقنعة شكل آخر يجعل المهمّة الحضارية والإصلاحية للإعلام قضية مستفزة للمثقف، هذا الأخير يملك سلطة خاصة وهو قادر على أن يتفرّد في الكون الجماعي ويبني له عالما خاصّا وهو يمتلك سلطة فوق سائر المؤسسات وتمرّده يدخل في خانة الصعائب. إنّ الإعلام يعيش هو الآخر حالة من الاستبداد الذي ينعكس على جودة القول والفكر، بل ويساهم في لعبة التبسيط الذي يجعل العقل مستهلكا خارج واقع الكومبليكسوس. إنّ إقناع الجمهور بالزيف واعتباره مغني اللّبيب عن إقناع المثقف خطيئة في صلب العملية التواصلية. إنّ ثورة التواصل أنتجت فوضى لاتواصلية بل ساهمت في تلوّث البيئة الرمزية، وفي نهاية المطاف يصبح الإعلام بما هو صناعة للزّيف مساهما فعّالا في تدمير الثقافة وتقويض العمق الذي يتطلّبه تعقيد الواقع.

واليوم يتعين أن يتحلّى الإعلام المقاوم للزيف والتضليل بقدر من الاستيعاب لمعضلة علم الوسائط ومدى نفوذ الأيديولوجيا الزائفة وسلطة الصورة في الحياة العامّة. إنّنا في حاجة إلى ثورة في طرق الإقناع ووخز الدماغ باتجاه النباهة وسرعة البداهة في تحديد مكامن الكذب، وهي مهمّة تتطلّب الكثير من الفكر والكثير من العمل.

أؤكد على مسألة الاستهانة بالمثقف حين يكون عضويا بتعبير غرامشي، لقد سمعت في مناسبة سابقة أحد المحللين من النمط المحتال يتحدث بسلبية عن المثقف وكأن المثقّف غير معني بالسياسة، وهو بذلك أكّد على أنّه جاهل بمصير الوعي داخل لعبة الإعلام. نسي أنّ المثقف الحقيقي المعني بالمفاهيم هو الأكثر قدرة على تفكيك الخطاب، والأكثر قدرة على كشف الهشاشة، أقول: حين يتعلّق الأمر بالمثقف الحقيقي ليس الذي يردد مقولات متوفرة في سوق الإنشاء العام بل الذي يمتلك أدوات ومهارة في استعمال تلك الأدوات، أي المثقف المبدع. ما قيمة السياسة إذا لم تصبح مثقّفة، أليس المثقف هو الذي أسس علم السياسة؟ أليس أكثر النقوض للعبة الإعلام وأفضلها ما قام به الفيلسوف والمؤرخ واللغوي: تشومسكي وبورديو وأمبرتو إيكو وهابرماس ودوبريه وغيرهم؟ في أي كوكب يعيش أولئك الذين يعتقدون أنّ التّاريخ يتحرّك من دون المثقف أو أن يظل هذا الأخير تحت رحمة الفوضى السياسية؟ في الثقافة لا يمكن أن يحصل الخداع لأنّ المثقف يقوم بالرقابة الصارمة على مهنته، ولذا أهمية وضرورة النقد المستدام، وحتى الآن وحده المثقف من يجرؤ على نقد وضعية الإعلام وهيمنة الميديولوجيا ومساهمتها الريادية في صناعة الزّيف. المثقف الحقيقي هو حارس المعنى ومكافح من أجل الحقيقة. بل المثقف هو أوّل ناقد لواقع الإعلام وأزمته، أما محاولات الهيمنة على مشهد صناعة المثقفين كما تقوم به اليوم بعض المؤسسات الرجعية لأنها لا تريد أن تظل هناك مساحة حرّة للمثقف، أي محاربة المثقف بإنتاج موجة من المثقفين المزيفين وتمكينهم من محاصرة المثقف بالضجيج والتكرار، فهي صناعة فاسدة وعاجزة، لأنّ المؤسسة هي أضعف من المثقف الحقيقي حين يصبح في حالة تمرّد.

أقصد زمجرة المثقف المجروح التي قد تطيح بالزّيف. مع كثرة الوسائط التي يوازيها ضيق في الاختيارات، لأنّها تتجه نحو الإجماع، الإجماع الذي يحاصر الخلاف: وحده كما في نظر ليوتار ونظرائه يحقق الإبداع. وهنا يكمن الخداع الآخر، افتعال الاختلاف وفق معايير تبسيطية، كالاتجاه المعاكس والرأي والرأي الآخر الذي يضعنا في حالة ما يسميه البعض صراع الديكة وبتعبير ليوتار هو شيء مختلف عن سوء التفاهم، بل هو نوع من النزاع الذي لا يفضي إلى حلذ عادل. هنا في صلب هذا الاختلاف الممسرح والمفرغ من المحتوى لا نمنح فرصة لظهور المعنى ولا لتنميته. والميديولوجيا - وفق اصطلاح دوبريه - تساهم في هذه الوضعية التناقضية: تواصل لا تواصلي. المثقّف ليس رهينة للوسائط، هذه الأخيرة التي يجب أن تنمو لتستوعب المثقف بدل أن تعاند في رتابتها وتحلّ مشكلة الجمود بالتعويض عن المثقف الحقيقي بالمثقف المغشوش الذي هو جزء من الأزمة ومؤثّث لمشهد الرداءة. نحن نلاحظ انقراض جيل من الرّواد وميلاد جيل الرّداءة. الإعلام حين يتجه اتجاه معاكسا للثقافة يصبح وسيلة تخليف بامتياز.

وعليه وجب أن نقيس جودة الإعلام بحجم حضور الثقافة والمثقف، أما إذا دخل في المسألة حساب ما يرضي الجمهور واللاّوعي فهذا يعني أن الإعلام ورسالته لم تعد شأنا للوعي، أي باتت مجرد خداع تقني ومتقن. إن الإعلام المقاوم للزّيف والذي يستمدّ قوته من العمل التّطوّعي للمحلل السياسي ويمنح فرصة الوفاء للمبدئية وخطاب العقل يحتاج أن يقطع مع أساليب الماركوتين والنظرة الخاطئة للجمهور التي تقوم على تطبيق مغرض لنظرية التّلقي. إنّ الإعلام المقاوم للزيف معنيّ بالوعي، وهو حتما هاهنا ينطلق من واقع متلقّي أضيق، لأن مساحة الوعي أضيق، وهنا يصبح المطلوب إقحام الناس في دائرة الوعي بل واستعمال اللاّوعي وآلياته في خدمة الوعي أيضا. الخوف هنا من الرّدة في أساليب الإعلام المقاوم للزيف، لأنّ غايته نقيضة.. وثورية.. وإنسانية.. وهي لا تحتاج إلى تقنيات للكذب بل تحتاج إلى تقنيات تبليغ الحقيقة وممارسة الصدق في الإخبار كسلطة لا يملكها الكذب الذي يتوسّل سلطة الصورة.

في القادم: صور من المغالطة في السياسات الإعلامية...

* إدريس هاني -مفكر مغربي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق