q

كل الصراعات التي يشهدها العالم اليوم؛ ناتجة عن صراع ثقافتين، تؤمن الأولى بقيمتها الحقيقية، ودورها المؤثر والحيوي، وثانية ضحلة تُستخدم لتهديم البنية الانسانية وجعلها هشة فكرياً أساسها المتاهة والتخبط؛ حتى تسهل عملية السيطرة على العالم ومن كافة الجوانب.

وبكثير من الواقعية، وبعيداً عن أي إفراط أو مبالغة في رسم صورة وردية متخيلة لعالم اليوم، نجد أن الثقافة الضحلة والمتدنية هي الأكثر حضوراً والأعلى صوتاً؛ لوجود عدة عوامل ساعدت على تأكيد قصدية انتشارها، ومن أهم هذه العوامل عامل تسليع الثقافة، وبذل الأموال الطائلة من أجل ترويج هذه السلعة المراد منها نسف الثوابت الأخلاقية تمهيداً لاستبدالها بالمفاهيم والأفكار المادية.

ولعل أكثر شيء يمكن الانتباه إليه هو قضية فرض الأنموذج الغربي ليشكل الثقافة السائدة، وجعله متماهياً مع كل الهويات والثقافات، وبعبارة أكثر وضوحاً: الاتجاه نحو شكل أحادي للعولمة. وهنا قد نجد أنفسنا أمام جدل من نوع جديد يتمثل في معرفة المعنى الخاص بكلمة (الهوية) وهل الهويات مكتفية بذاتها ثقافياً خصوصاً مع ظهور الحداثة حيث التشظي الكبير في المفاهيم؟ وهل سنكون إزاء الانقسام بين ماذهب في طيات النسيان، وبين الذي سيحصل؟

ولحد هذه اللحظة يمكن اعتبار العولمة ثقافة كونية يتم ربطها بالآخر في علاقة تبادلية في حال اعتمدت التنوع الثقافي شريطة عدم تسليعه واعتماده كمادة للصراع التجاري الثقافي.

ماذا عن تهديد اللغات؟

وقد يدخل الحديث عن مستقبل اللغات بقوة على خط النقاش في قضية التنوع الثقافي خصوصاً مع الكلام عن انقراضها المخيف والمطالبات باختزالها ؛ لكونها ــ بحسب متبني هذه الآراء ــ لا تتحصل على ما يسمى بـ ( المسارات المتحركة)، مايجعل الشعوب أمام خيار التنازل عن لغاتها الأصلية إلى أخرى (متحركة) الأمر الذي سينتج أنواعاً من التعقيد المتنوع وفي هذا الصدد يقول (ساليكو كو موفوين) في مقال له بعنوان (الاستعمار والعولمة ومستقبل اللغات) : "إن إشكالية اللغات المهددة تبدو إذن أكثر تعقيداً مما يبدو في الظاهر، وقد يكون من المستحيل أن نفهمها دون أن نأخذ بعين الاعتبار التغييرات الاقتصادية التي التي تحصل في مجتمعاتنا، وطريقة تأثير هذه التغييرات على الناطقين باللغات المختلفة".

ويبدو من كلام (موفوين) أنه يحذر من تهديد يأتي عن طريق التثاقف الذي يلقي بظله على اللغات مع دخول العامل الاقتصادي بقوة على الخط، فضلاً عن عامل آخر ربما لم يُلتفت إليه وهو عامل التأثر بالموضة والمظاهر اللفظية الرائجة كما هو منتشر كثيراً اليوم من خلال أحاديثنا، وخصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تنازل فيها كثيرون منا عن طرائقنا في الحديث في تقليد غريب فصارت عبارات مثل : (باي، اوك، هاي، نايس) وغيرها متداولة بشكل يجعلك تظن أنها مفردات تنتمي لنا حقاً. وعامل التأثر بالموضة يمكن أن نبوبه في خانة العامل الاجتماعي، حتى وإن عكس الحالة النفسية للفرد ومزاجه الشخصي أكثر.

وبذلك فأن التهديد الحقيقي الذي تواجهه الانسانية اليوم يتلخص في إنعاش سلعة الثقافة عبر سوق (التنوع الثقافي) المزدهر ببضائع الميديا والالكترونيات والتي عادة ما يتم استهلاكها بطريقة معكوسة لدرجة أن البعض بدأ يتنبأ بأن يكون القرن الحادي والعشرين مسرحاً لاشتعال المعركة بين التجارة والثقافة، ويطلق مخاوفه من عملية تفكيك المفاهيم وتحويلها بفعل التجارة إلى سلع وبضائع للتداول (العولمي)، ومن المتنبئين بالمعركة بين التجارة والثقافة (جيرمي ريفكين)، لكن رهانه يبقى على التنوع الثقافي في الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والهوياتية أمام الوحش المقنع بالسلعة من خلال "سلطة مضادة للعولمة تتيح لنا الحصول على العولمة والثقافة معا. هذه السلطة المضادة تكمن في الجماعة".

والجماعة هنا لابد أن تكون متصالحة مع ذاتها وقيمها وبعيدة عن الجزم بأن ثقافتها هي الصحيحة، وبقية الثقافات معادية، خصوصاً تلك الجماعات الأصولية المتشددة المتبنية لأفكار التطرف والعنف والتطهير العرقي، وهذا لا يعني أن تكون الجماعة عابرة لمحليتها ومحيطها الإقليمي تحت يافطة الاندماج مع (الجديد)، فالمقصود من الجماعة إذن هي التي تحقق التوازن بين العولمة والتنوع في ظل إرادة مدنية تحترم السياقات المجتمعية وتتطلع لتعزيزها وفق الأطر الحضارية التي تضمن للأجيال القادمة ميراثاً ثقافياً يمكن الاستناد عليه في مسيرتها المستقبلية. إذن لابد أن ترتفع الأصوات عالياً ضد أية محاولات لتسليع الثقافة ومكوناتها، وضد محاولات الإضرار بالتراث الثقافي والحضاري التي انتعشت في السنوات الأخيرة بفعل الحروب التي نتجت عن صراع التجارة ممثلة بالإيديولوجيات، وبين ثقافات تنتهج الكراهية والعنف ممثلة بالجماعات الأصولية المتشددة، فكان الحصاد المؤلم بتخريب التراث في سوريا والعراق وكان من أهدافه ضرب هويات الشعوب وحضاراتها تمهيداً لنسف التراث الحضاري العالمي، فمثل هذه الآثار الثقافية؛ لابد أن تكون فاعلاً في صناعة السلام، لا أن تكون مسرحاً لاشتعال الصراعات.

اضف تعليق