q
يبدو الأمر بحاجة الى صبر وطول أناة لاستحصال النتيجة، وهو صبر من نوع خاص، ربما لم يحصل لسائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، لأن الإمام زين العابدين، كان يُحسن ويبر الناس ليلاً دون أن يعرفونه، مع معرفته لتنكرهم له نهاراً، فطالما كان يتلقى السبّ والشتم والاستفزاز في الطرقات...

"صدقة السرّ تطفئ غضب الرب"

الإمام زين العابدين، عليه السلام

الأجواء السياسية مشحونة بالتوتر والقلق منذ واقعة عاشوراء، فالحكام الأمويون المتقمّصون رداء الخلافة في مقرهم الوثير؛ الشام، يحسبون لكل حركة او سكنة ألف حساب، خشية ردود الفعل من أي بقعة من البلاد الاسلامية، لاسيما من الكوفة التي تحولت فيما بعد الى منطلق للثورات والانتفاضات بوجه هذه الدولة، لذا لم يكن ثمة وقت لهم لمداراة أحوال الناس والنظر في أوضاعهم المعيشية، وكما هو ديدن الحكام المستبدين فإن أول من يدفع ثمن سياساتهم الفاشلة؛ الشريحة الفقيرة، يبقى علماء البلاط (وعاظ السلاطين)، والمتزلفين والازدواجيين من؛ محدثين وكتاب وشعراء و رؤساء قبائل فان أموال المسلمين تذهب بآلاف الدنانير الى هؤلاء لشراء الولاءات والذمم.

صدقة السرّ وترميم الكرامة المهدورة

كان يحمل "الجراب"، على ظهره (كيس يوضع فيه الطعام)، ويطرق أبواب الفقراء والمحتاجين ليلاً ويضع الطعام على الباب ويغادر بسرعة، وقد أخفى وجهه حتى لا يعرفه صاحب الدار، وكان، عليه السلام، يردد: "صدقة السرّ تطفئ غضب الرب"، فلماذا يكون الرب –عزّ وجلّ- غاضباً؟ لاشكّ؛ من ردود افعال الناس غير المحسوبة على الاوضاع السيئة، فيكون الغضب، والتنكّر لنعم الله، وتراجع الإيمان في النفوس، وانعدام الثقة بين افراد المجتمع، وكثير من الظواهر التي تفرزها ظاهرة الفقر، فيكون لصدقة السرّ دورٌ كبير في إخماد المشاعر السلبية لدى الفقير، وحصر حالته في بيته وبين اربع جدرانه، وعدم إشاعة الحال الى سائر افراد المجتمع، وحتى تكون المساعدة ستراً وصوناً لكرامة الفقير اضافة الى سد جوعه وجوع اطفاله.

هذا من الجانب الاجتماعي، أما الجانب السياسي فان دوره مباشراً وكبيراً في خلق ظاهرة الفقر في المجتمع الاسلامي في عهد الامام زين العابدين، فقد تسبب الفكر القومي للدولة الأموية بصدمة عنيفة لدى المسلمين من غير العرب، وكانوا منتشرين في البلاد الاسلامية باعداد أكبر بكثير من العرب، فبعد أن تذوق المسلمون المساواة، كأحد أعظم القيم الاسلامية، في عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، تفاجأوا بمرارة التمييز الفاحش والظلم والاجحاف على يد الحكام الأمويين منذ عهد معاوية وحتى آخر الحكام الأمويين الذين كانوا يفضلون العربي على غيره، سواءً كان حراً او عبداً، او ما كان يطلق عليه بالمَوَالي.

وهكذا تحولت البشارة بالمساواة والعيش الكريم في ظل الاسلام، الى حياة البؤس والشقاء تذكرهم بما كانوا عليه قبل إسلامهم، حتى وجدوا انفسهم قد تحولوا عبيداً لسادة آخرين، وربما ظلوا عبيداً لنفس سادتهم الاولين، لان الامويين كانوا يتفقون مع العلوج الذين هم الدهاقين –اصحاب الاراضي الزراعية- بان لهم الحق في استغلال واستعباد مواطنيهم لقاء الخراج الذي يدفعونه للدولة، وقد قام هؤلاء بالسيطرة على الموالي وعلى تلك الطبقات المحرومة، وقد أخذوا الضرائب من الناس بشكل عشوائي، ومارسوا بحقهم الظلم والتقتيل باسم الدين.

الامام زين العابدين، عليه السلام، لم يكن يمتلك "بيت المال"، وكان حينها بمنزلة وزارة المالية، تُجبى اليها ملايين الدراهم والدنانير، الى جانب المقتنيات الثمينة، والمحاصيل الزراعية الوفيرة، وكلها موارد مالية ضخمة، بل يكن الإمام يمتلك تلك القاعدة الشعبية المؤمنة والموالية بأحقية أهل البيت، فقد كان، عليه السلام، في دور المبلّغ والمرشد للمجتمع لإعادته الى وضعه النفسي والروحي وفق النظم والقواعد التي بشّر بها جدّه المصطفى محمد، صلى الله عليه وآله، ولعل هذا يفسّر علّة التخفّي، لإحياء مفاهيم العطاء، والتكافل، والتعاون من جديد، وترميم ما تصدّع في المجتمع بسبب سياسات الأمويين الجائرة، وهذا بحاجة الى صبر وتجلّد ونكران للذات من نوع خاص.

يكفي أن نشير الى حادثة واحدة مما نقله "الاربلي" في كتابه: كشف الغمّة في معرفة الأئمة، انه، عليه السلام، كان له ابن عم يأتيه ليلاً متنكراً فيناوله شيئاً من الدنانير فيقول له: "لكن علي بن الحسين لا يواصلني لا جزاه الله خيرا"! لنتصور أي حالٍ يكون عليه الإمام زين العابدين في تلك اللحظات، بغض النظر عما صار اليه حال ذلك الرجل بعد معرفة الحقيقة، بعد استشهاد الإمام، فالمهمة ليست بسهلة مطلقاً، والإمام يعرف نفسه بأنه إمام معصوم مفترض الطاعة، ويتفرض ان يحترم ويطاع بأمر الله –تعالى- بيد أنه، عليه السلام، غلّب هذا الشعور حفاظاَ على مشاعر أفراد الأمة، وتعزيزاً للقيم والمبادئ السامية في نفوسها.

مدينة رسول الله.. من الحياد السلبي الى الإيمان

لا يخفى على المتابع لاحداث التاريخ في الفترة التي غادر فيها الامام الحسين، عليه السلام، مدينة جدّه المصطفى، باتجاه العراق تلبية لدعوات أهل الكوفة، وحتى لحظة عودة الإمام زين العابدين مع عماته ومن بقي من أسرة الإمام الحسين بعد مسيرة السبي، ثمّ ما جرى للعقيلة زينب، وسائر نساء أهل البيت، وحتى النسوة اللاتي فقدن أحبتهنّ يوم عاشوراء، وكيف أن أهل المدينة كانوا يتبرمون من طول النوح والبكاء من بيوت الهاشميات، ولكن؛ مع ذلك، نقرأ العجب من طريقة تعامل الإمام زين العابدين، مع أهل المدينة الذين تركوا الإمام الحسين، ولم يواكبوه في مسيرته الإصلاحية العظيمة، رغم وجوده بين ظهرانيهم سنين طوال.

هنا؛ يبدو الأمر بحاجة الى صبر وطول أناة لاستحصال النتيحة، وهو صبر من نوع خاص، ربما لم يحصل لسائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، لأن الإمام زين العابدين، كان يُحسن ويبر الناس ليلاً دون أن يعرفونه، مع معرفته لتنكرهم له نهاراً، فطالما كان يتلقى السبّ والشتم والاستفزاز في الطرقات، وكان يقابل ذلك برد غريب على أهل زمانه: "إن كان ما قلت صحيح غفر الله لي، وإن كان غير ذلك غفر الله لك"! ومن ثمّ كانت تأتي النتيجة؛ {الله أعلم حيث يجعل رسالته}، ولكن ماذا عن تلك الليالي التي يطعم فيها الناس لسنوات طوال، ولا أحد يعرفه حتى يشكره او يعتذر اليه؟

هذه هي مهمة الانبياء والمرسلين؛ بناء الانسان في نفسه و روحه وأخلاقه ولو جاءت النتائج بعد حين، فمن خلال صدقة السرّ، فقط هذه الفقرة في برامج الإمام زين العابدين، بثّ، عليه السلام في الأمة روح التديّن والإيمان والسعي نحو الإصلاح، على خطى أبيه؛ الامام الحسين، عليه السلام، وحتى يكون الهتاف: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}، ليس من فرد واحد، وإنما من جموع المسلمين بعد استشهاده، عليه السلام، على يد الساعين لتكريس حالة الفقر والبؤس واليأس في النفوس.

اضف تعليق