q
إن دروس الانتصار والنجاح هذه تعلمها الامام الحسين، عليه السلام، من مدرسة الوحي والايمان بالغيب التي جاءت في بدايات القرآن الكريم؛ الآية الخامسة من سورة البقرة، بما يجعل الانسان متصلاً دائماً، وفي جميع مراحل حياته، بالقوة العظمى، وليس فقط بالقوى الثانوية والجزئية في الحياة...

في مساء يوم التاسع من المحرم، طلب الامام الحسين من أخيه أبي الفضل العباس، مخاطبة جيش ابن سعد بأن يمهلوه الى غداة اليوم العاشر ليتفرغ للصلاة والدعاء وقراءة القرآن الكريم، وقال: "ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غد، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني كنت قد أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار".

يفترض لأي قائد عسكري في ظروف كهذه، أن يكسب الوقت ما أمكنه لتعزيز قواه العسكرية، وتنظيم صفوف قواته والاستعداد الكامل للمواجهة، بينما الامام الحسين، وهو آخر ابن بنت نبي على وجه الأرض، ويعرف أنه إمام مفترض الطاعة على المسلمين جميعاً، بتصريح واضح من رسول الله، صلى الله عليه وآله: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، بيد أن استعدادات الامام كانت في اتجاه آخر، بعيداً جداً عن حسابات الارض واعتباراتها المادية، نعم؛ من الناحية الظاهرية، اتخذ الامام الحسين كافة الاستعدادات العسكرية لمواجهة الحرب التي فرضها عليه الجيش الأموي، مع قلّة عدد اصحابه، فقد نظم قواته، وفق المعايير العسكرية آنذاك؛ قوات على الميمنة، و أخرى على الميسرة، وقبل هذا حفر الخنادق حول الخيام، حيث النساء والاطفال، ثم أشعل فيها النيران حتى يكون ظهر معسكره آمناً، وهو ما أثار غيظ الشمر، كما جاء في المقاتل.

من أسرار انتصار الامام الحسين في معركته ضد النفاق والدجل والانحراف؛ ارتباطه الوثيق بالقدرة العظمى اللامتناهية، وربما المسألة تكون منطقية جداً؛ فقضية بهذا الحجم، وذات أبعاد حضارية واسعة، لا تستوعبها التحالفات السياسية، او القدرات العسكرية، او التغطية المخابراتية، او الجهود الاعلامية والحرب النفسية، ربما يكون لهذه العوامل تأثيراً في تحقيق هذا الانتصار، بيد ان الذي نشهده ونلمسه بكل جوارحنا كل عام، وتشهده الاجيال طيلة القرون الماضية، حيث الحيوية المتجددة في المنهج، والحرارة المستدامة في النفوس، كما لو أن الواقعة حصلت هذا العام، كل هذا؛ ينبئ عن دعم سماوي مباشر لهذه النهضة الإصلاحية العظيمة.

فكيف يا ترى وصل الامام الحسين الى هذه المرتبة السامية ليحظى بدعم عظيم كهذا؟

من خلال البحث في عوامل انتصار الامام الحسين، نسلط الضوء على ثلاث عوامل:

الأول: الانقطاع والتوكل على الله

قبل أن ينطلق نحو المواجهة العسكرية في كربلاء، كان الامام واقفاً عند جبل عرفة، تحت أشعة الشمس اللاهبة، وقد رفع كفيه الضارعتين الى ربه وهو يتلو ذلك الدعاء المشحون بالمعارف، والمعروف بدعاء الامام يوم عرفة، نقرأ مما جاء فيه: "أنت كهفي حين تعييني المذاهب في سعيها وتضيق بي الأرض برحبها ولولا رحمتك لكنت من الهالكين وأنت مقيل عثرتي ولولا سترك إيّاي لكنت من المفضوحين وأنت مؤيدي بالنصر على أعدائي ولولا نصرك إيّاي لكنت من المغلوبين، يا من خصّ نفسه بالسمو والرفعة فأولياؤه بعزّه يعتزون، ويا من جعلت له الملوك نَير المذلة على أعناقهم فهم من سطواته خائفون، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وغيب ما تأتي به الأزمنة والدهور، يا من لا يعلم كيف هو إلا هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو".

هذا المستوى من العرفان والإيمان والتوكل هو الذي جعل قلب الامام الحسين كزبر الحديد، ومنحه القوة ورباطة الجأش، وهو ما سجله المؤرخون على لسان غير واحد من افراد عمر بن سعد عندما قال أحدهم: "ما رأيت مكسوراً قط، قتل أنصاره وأهل بيته، أربط جأشاً منه..."، وكلما كانت يقترب موعد اللحاق بجده وأبيه، كان وجهه يتلألأ، ويزداد عزيمة، فكان كالجبل الأشمّ أمام الآلاف، حتى أن عمر بن سعد، وهو يتابع مجريات الحرب من الناحية المهنية، وجد أن الامام لا يبق أحداً ممن يتقدم اليه للمبارزة، فصاح بهم: "ويحكم! هذا ابن قتّال العرب، لو تستمرون على هذا المنوال –مضمون كلامه- لابادكم عن آخركم، اهجموا عليه همجمة رجل واحد"، وهو أنصاعت اليه الجموع المضللة والمغرر بها، فاندفعوا نحو الامام السهام والرماح والحجارة.

الثاني: الرضى المطلق

ما حصل يوم عاشوراء من سنة 61 للهجرة، لم يكتشفه الامام الحسين، لدى سماعه أنباء انقلاب رأي أهل الكوفة واستشهاد مسلم بن عقيل، إنما القضية تعود الى سنوات مديدة قبل ذلك، بل وتحديداً منذ ولادته، عليه السلام، عندما جاء البلاغ السماوي على لسان جبرائيل الى رسول الله، يُنبؤه بما يحصل لهذا الوليد من بعده، ثم جاء البلاغ ثانية يخبر النبي بما يحصل من بعده على أهل بيته، وفي المقدمة؛ الحسين، وتقول الروايات: أن جبرائيل طلب من النبي أن يأخذ العهد والميثاق من أهل البيت، وكانوا في حضرته، وهم ابنته فاطمة، وأمير المؤمنين، والحسن والحسين، عليهم السلام، بأن يحملوا الراية والرسالة ويواجهوا الصعاب الجمّة حتى الرمق الأخير.

هذا الميثاق والعهد الإلهي كان حاضراً في ذهن الامام كلما سمع أقوال هذا وذاك بعدم الذهاب الى العراق وتعريض نفسه للخطر! بأن بينه وبين رسول الله، عهدٌ قطعه بأن يستمر في حمل راية الإصلاح والدفاع عن الدين والرسالة بنفس النسق الذي كان على عهد جدّه المصطفى، وهذا ما جعله، عليه السلام، في قمة الرضى بقضاء الله وقدره، وقد رافقه هذا الرضى في كل خطوة مشاها صوب كربلاء، بل وفي كل مصيبة تلمّ به، فقد كان يجيب أولئك الخائفين على أنفسهم: "شاء الله أن يراني قتيلاً"، ثم يجيب على من يحتج عليه باصطحاب النساء والاطفال: "شاء الله ان يراهنّ سبايا". وإلا كيف نفسّر أول رد فعل للامام الحسين، وهو يتحسس حرارة دم طفله الرضيع على يديه، وهو لم يطلب له سوى الماء؟ كلمة واحدة نطق بها لا غير: "هوّن ما نزل بي إنه بعين الله".

ثالثاً: التنكّر للذات

وهذه مسألة غاية في التعقيد في دراسة الشخصية الانسانية، فالعلماء يبدون صعوبة في تبني هذه الفكرة اذا ما ارادوا التنظير للتنمية والتطوير وتكريس الروح الايجابية للفرد، وزرع الأمل في نفوس المجتمع، ولكن؛ عندما تحتدم المعركة الفاصلة بين الحق والباطل، ويكون ثمة موعداً لكتابة صفحة جديدة للتاريخ، وتقرير مصير أمة، فان الذات، والخصوصية، والأنا، لن يكون لها مكان في الساحة، وإن حصل ذلك، كما نرى اليوم، فلا نعوّل كثيراً على النتائج الكبيرة، فكيف نتوقع نصراً ساحقاً على الفساد والانحراف بكل اشكاله، بينما يتمسك كل فرد بالمجتمع بمصالحه، وامتيازاته، ومكانته الخاصة خشية خسرانها؟

في كثير من مراحل الصراع مع الديكتاتورية والكبت والحرمان، طيلة العقود الماضية، دفعت الشعوب ثمناً باهضاً لقاء تمسك الكثير بمصالحهم الخاصة وخوفهم على مناصبهم وأموالهم في السوق، وما لديهم من بيت وأسرة وسيارة وأرصدة في البنوك، لئلا تصاب بسوء من قبل السلطات الحاكمة، بينما الامام الحسين، وهو سبط رسول الله، وإمام مفترض الطاعة، وليس عالم دين، ولا استاذ بالجامعة، ولا صاحب رساميل، او لا تاجر في السوق، ولا حتى صاحب منصب في الدولة، إنما إمام عظيم وشخصية لا تتكرر مطلقاً، مع ذلك كان ماضياً في طريق يعرف أنه ينتهي بقتله، وليس هذا فقط، وإنما سيحرقون خيامه، ويسحبون الاطفال ويضربون النساء، ويجري ما لا نعرفه ولم يذكره المؤرخون قط في الساعات التي تلت استشهاد الامام الحسين، عليه السلام.

إن دروس الانتصار والنجاح هذه تعلمها الامام الحسين، عليه السلام، من مدرسة الوحي والايمان بالغيب التي جاءت في بدايات القرآن الكريم؛ الآية الخامسة من سورة البقرة، بما يجعل الانسان متصلاً دائماً، وفي جميع مراحل حياته، بالقوة العظمى، وليس فقط بالقوى الثانوية والجزئية في الحياة؛ سواءً كانت قوى ذاتية، مثل العقل والارادة، او قوى خارجية، مثل العلم والمال والسلاح، فكل هذه القوى، وإن لها مدخلية في تحقيق الكثير، بيد أن المنجز لن يكتب له النجاح والديمومة بمثل ما أنجزه الامام الحسين في واقعة الطف.

اضف تعليق