q
ما يريده الحسين عليه السلام من المسلمين جميعا، من الشباب، من الرجال والنساء، هو تنظيف العقل من أية شوائب تعلق به لأي سبب كان، وحين تنظف العقول ستنسجم معها القلوب والنفوس، وحينئذ يتصالح الإنسان مع ذاته ويصبح أقوى المخلوقات والبشر إيمانا ودعةً وسلاماً...

من الذي يجلو الظلام عن العقول، ومن يزيح الجهل ويشرع أبواب العلم كي يتنوَّر الناس وتُضاء قلوبهم بالقيم الحميدة والأعراف المفعمة برحيق الإنسانية، على من تقع هذه المهمة؟، لقد بدأ الرسول محمد (ص) فرداً في غابة من التوحش والظلامية، وكانت تلال بل جبال الجهل تقبع فوق رؤوس القوم فتحبس عقولهم في زنازين الظلمة، وكانت العادات المكروهة تفتك بالجميع، وقلما كان يفلت أحدهم من دوّامة الاقتتال، فالغزوات قائمة ليل نهار، وسفك الدماء كما يشرب أحدهم الماء، ودفن المواليد من الإناث وهنّ أحياء، كل هذه الملامح والشواهد وثمة غيرها تقدم صورة عن الوسط الاجتماعي الذي بدأ فيه محمد (ص) مشروعه التنويري الإسلامي.

وقد لوحظَ أن من استرشد بنور الإسلام لم يضل طريقه، ودوَّن لنا التاريخ الناصع ذلك المشروع الإسلامي الوليد بأحرفٍ من نور، وفي هذه الحاضنة العلمية الأخلاقية المحمدية، وُلِدَ وترعرع وتعلم الإمام الحسين (ع)، في كنف جده محمد صلى الله عليه وآله، فماذا يتوقع المرء أن تكون النتائج؟، وثمة أستاذ عظيم تتلمذ على يده الحسين (ع)، إنه أبوه وهو سيد البلغاء علي بن أبي طالب، فقد رضع الحسين علمه من الشجرة المحمدية الرؤوم، وتغذى من عِلم وأدب وحنكة علي (ع)، تُرى ماذا يتوقع المرء من سلسل دوحة العلم والأدب؟ وماذا يريد الحسين (ع) بإطلاق ثورته التنويرية العظمى؟.

لقد قيل أن إمامنا الثائر المتنوّر خرج في طلب السلطة!!، وهو ابن علي (ع) وجده الرسول محمد(ص) الذي علّمه ألف ياء الحق والثورة وأرضعه العلوم والآداب والأخلاق، ماذا نتوقع إذاً من ثورة سلسل الثوار والعلماء والبلغاء، وهل كان يزيد يتوقع أنه يمرر أحابيله وافتراءاته على الإسلام والمسلمين من دون تصدٍ أو ردع، لقد أصيب هذا الصغير بالغرور، ونسي أنّ أباه وأجداده لانوا واندحروا وتراجعوا أمام الإرادة المحمدية لا لشيء إلا لكونها إرادة الحق والنور وسحق الظلم، فهل كان يتوقع يزيد القزم أنه يسلم من الهزيمة التي تجرعها آباؤه وأجداده؟.

كانت نشوة السلطة قد أعمت بصيرته، وهي مصابة بالعماء أصلا، فتصوّر أن الحسين (ع) سيبايعه، ولأنه معمي البصيرة ومصفَّر العقل، كان يمني نفسه بمبايعة الإمام الحسين (ع)، في حين بقي ردّ الإمام على يزيد يتردد صداه حتى هذه اللحظة في أرجاء الأرض، وقد أوجز الكاتب أحمد محمد هذا الموقف بالكلمات التالية:

(مثلي لا يبايع مثله" منهج خطه الحسين بدمه الطاهر، ورسالة كتبها بحروف الإباء للإنسانية جمعاء، وسُلَّم نحو الحرية والعلياء، فهو "عليه السلام" لم يقل: أنا لا أبايع يزيد، وإنما قال: "مثلي لا يبايع مثله"، حتى يسد أبواب شخصنة القضية، ويقطع الطريق أمام من يريد أن يختزل التكليف بالحسين فقط، أو يحصره في زمن معين، فالحسين بمقولته تلك أسس لقاعدة حيَّة ممتدة على طول الخط مفادها: من يدعي أنه حسيني عاشورائي، فلا يبايع مثل يزيد، لا يبايع من يسير على نهج يزيد، نهج الفساد والظلم والقمع والتمييز والاستبداد وخنق الحريات).

ولعل أعظم الدروس المستمدة من ذلك، أن الذي يعلن أنه منتمٍ إلى المنهج الحسيني لا يجوز له مبايعة الظالمين، والواجب عليه أن يتبرأ منهم ولا يتعاون معهم، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، عليه أن يحاربهم، وثمة الكثير من أساليب القتال، فالحاكم الطاغية يخشى أن تحاربه بالكلمة أكثر من محاربته بالسلاح الناري، لأن الأخير فعله مادي ومرئي يمكن للطاغية مواجهته بقوة مضاعفة من العدة والأزلام، لكن إذا كانت الحرب فكري سبيلها الكلمة ووسائطها العقول والأفكار، كيف يواجهها الظالمون من الحكام أو مساعديهم؟.

انطلاقا من هذه النقطة، عمل الإمام الحسين في ثورته العظمى على تنوير العقول، وإزاحة أكداس الجهل عنها، وهذا ما يحتاجه المسلمون اليوم في مجتمعاتنا الغارقة باليأس والأعراف البالية والأفكار المجمّدة، اليوم يريد منّا الحسين أن نجلو عقولنا بعلمه ومبادئه وأفكاره الداعية إلى التحرر من ربقة السلطة الظالمة، اليوم يطالبنا الإمام الحسين (ع)، بأن نلتزم الطريق الطويل الذي سار فيه، ليس بالكلمات وحدها، فثمة التطبيق وهو الأهم في مضمار التحقق من النتائج.

اليوم نحن نعيش وقفة الحسين، ونستلهم منها شجاعة الفكر والقرار والتفكير، اليوم يدعونا الإمام الحسين إلى نجلو الظلام ونسحق الجهل برمته، وننتفض لأنفسنا ونحمي مبادئنا التي غرسها فينا الإمام الثائر عليه السلام، الجميع عليه أن يدرس ويفهم ومن ثم يؤمن برسالة الحق الحسينية، ومن ثم الإعلان بلا تردد أو خوف بأننا أزحنا الجهالة عن عقولنا إلى الأبد، وأصبحنا نرى بكل الوضوح سبيل النهوض والتقدم، وصرنا اليوم نتلمس التغيير وطرائقه، وصولا إلى الغد العظيم المشرق.

الحسين عدوهُ اللدود الجهل، والظلام لا وجود له ولا حظوة بين الحسينيين الباذلين الغالي والنفيس من أجل سطوع النهضة الحسينية في مجتمعنا الإسلامي العريض، بالطبع هي ليست دعوات كلامية أو إنشائية محضة، إنها أهداف فكرية مبدئية عملية لابد أن تتحول إلى مضامير عمل ملموس، وحين يُمحى الجهل ويكتسح النور الظلمات، ستنهض العقول وتشرئب بأعناقها صوب جميع الجهات، وتترصد الظالمين وتطيح بهم، وسوف تصفو النفوس وتقوى وتنقى وتخشع وتؤمن وتمضي إلى السؤدد والسموّ.

ما يريده الحسين عليه السلام من المسلمين جميعا، من الشباب، من الرجال والنساء، هو تنظيف العقل من أية شوائب تعلق به لأي سبب كان، وحين تنظف العقول ستنسجم معها القلوب والنفوس، وحينئذ يتصالح الإنسان مع ذاته ويصبح أقوى المخلوقات والبشر إيمانا ودعةً وسلاماً، وفي نفس الحين يغدو الأقوى شكيمةً وإرادة في طرد الجهل وإزاحة الظلام، هذا هو ما ينقص مجتمعنا اليوم، وما هذه الأيام التي نعيش فيها عبق الشهادة في عاشوراء سوى دعوة مخلصة لنبذ الجهل وانتشال الجميع من براثن الظلام، مهتدين بالحسين عليه السلام فكراً ومبادئ وموقف.

اضف تعليق


التعليقات

زهراء محمد صادق
النجف
كلمات تنير العقل وتضيء القلب وتثلج الصدر.. بورك مدادكم وكثّر الله من أمثالكم2018-09-18
علي لطيف الدراجي
العراق
الحسين كتاب كبير بصفحات نقية.2018-10-01