q

فيما كان المجتمع العراقي يشهد أوج نشاطه وإبداعه، وفيما كان الحرفيون منهمكون في إنتاج بعض انواع السلع والمستلزمات البسيطة، وفيما كانت الزراعة تنتج أنواع الفاكهة والتمور، الى جانب اللحوم والاسماك والزيوت، الى جانب قطاع التصنيع يتقدم رويداً رويداً لتقليل الحاجة الى الخارج، طرق أسماع الناس فجأة الراتب المغري لمن يلتحق بالجيش بصفة متطوع، ليحصل شهرياً على راتب قدره 300دينار، وهذا لا يعود الى هذه السنين العجاف، وإنما الى سنين الرخاء الاقتصادي، وتحديداً في نهاية السبعينات، فما كان من كثير العاملين في الزراعة او الصناعة، إلا أن يتخلوا عن أعمالهم ويسارعوا لتسجيل اسمائهم للحصول على راتب كان يعادل آنذاك حوالي 1000 دولار ، وهو رقم كبير مقارنة بتلك الفترة، ويكونوا في راحة واطمئنان بعيداً عن التعب وصبّ العرق ليل نهار للحصول على رقم أقل بكثير مما عرضته عليهم الحكومة العراقية في ظل نظام حزب البعث.

ولسنا بوارد الحديث عما كان يخفيه النظام البائد، وشخص صدام، من وراء هذا الإغراء، بإشعال فتيل الحرب العراقية – الايرانية، واستمرارها ثمان سنوات، في حين كان يتصور الكثير في العراق، إنها لن تستمر سوى اسابيع، أما العبرة ليومنا الحاضر فهي؛ التفكير بالعمل و الانتاج وما يكون عليه يوم غد، فما تنتجه يد العامل والمزارع، وما يقدمه خريجي الجامعات والمعاهد التقنية من منجزات علمية وحلول لأزمات في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والقضاء والامن، هو الذي يضمن لهم وللشعب بأسره، الامن والاستقرار والازدهار.

إن أجواء اقتصادية كهذه لن يعجب من يمارس الديكتاتورية أو يرى طريقه في الحياة وسط مستنقع الفساد الاداري والمالي، لان نجاح الديكتاتور والحاكم الفاسد إنما يكون في سيطرته على لقمة عيش الانسان ودفعه للجري هنا وهناك بحثاً عن تأمين حياته، وعندما يجد الابواب امامه مغلقة إلا الوظيفة الحكومية وما توفره من راتب ثابت له، فانه يعدها طوق نجاة من الازمات الاقتصادية وما يتهدد البلد من كوارث أمنية او سياسية هي بالحقيقة، من نتاج السياسات الفاشلة للنظام الحاكم.

وهذا يعني أن الانسان العراقي تحوّل من العمل والابداع والانتاج الى الاستهلاك، ليس فقط السلع الاستهلاكية، وإنما استهلاك موارده وثرواته التي يفترض ان تكون ذخراً لمستقبل ابنائه، ويكون كمن يخرق السفينة التي يقف على متنها، وهذا نلاحظه من جحافل الموظفين المنتشرين في الدوائر الحكومية، الذي بلغ عددهم حسب بعض الاحصائيات الى 6مليون موظف يستنزفون 60بالمئة من موازنة الدولة، فيما 70بالمئة من هؤلاء الموظفون فائضون عن الحاجة! وهو ما يصفه الخبراء الاقتصاديون بأنه بطالة مقنّعة.

ومن حيث يريد او لايريد، أضحى العراقيون جزءاً من المشكلة! وقد سمعت من عديد المسؤولين في الدولة في دوائر مختلفة، تذمرهم واستيائهم من كثرة المطالبات من الناس، على أنهم يفعلوا كل ما بوسعهم لإرضائهم دون جدوى...!!

وهذا إن دلّ على شيء فانه يؤكد لنا أن منهج "الأخذ" يشكل دوامة كبيرة جداً للمواطن العراقي يبحث فيها عن المال والامتيازات من الدولة دون عناء كثير، ولن يجده، وإن وجده فانه يجني على نفسه وعلى الآخرين وعلى ابنائه في الحاضر وابناء الجيل القادم.

فهو يبني البيت الفخم ويمتلك السيارة الفارهة، غير مدرك بأن هذه المقنيات لم تأت اليه بالمجان، فهي جاءت اليه من الخارج بفضل العملة الصعبة التي وفرته له صادرات النفط، وبدلاً من أن تكون العائدات المالية للنفط في خدمة عجلة الانتاج والابداع، تتحول الى قطع حديد وأبنية ومقتنيات كمالية وجمالية ينفق عليها الناس الملايين.

فاذا جاء اليوم الذي لا يجد فيه الانسان العراقي ما يأخذه من أموال النفط، هل يلوم النظام الذي يحكمه، بأنه تسبب له هذا المآل؟!

المبادرة الاولى تأتي من افراد المجتمع قبل الحكومة ، لانهم هم الذين يأتون بهم الى سدّة الحكم وليس أناساً آخرين، وما يفعله الحاكم عادةً، إنما هو لإرضاء الجماهير وكسب تأييدها، الامر الذي يتعين الالتفات الى تجارب الشعوب الناجحة والناهضة وكيف حققت النجاح والتقدم بعدم التفكير بالأخذ، او حذفه من القاموس الثقافي - في مرحلة البناء والإعمار على الأقل- والمضي قدماً نحو العطاء بلا حدود وبذل الجهد العضلي والذهني خدمة للصالح العام.

وها هو الشعب الصيني والشعب الهندي والشعب الكوري الجنوبي وغيرهم، فهم بشر ايضاً ويرغبون بالعيش الرغيد والرفاهية، بيد أنهم آثروا العمل في الورش الصغيرة ثم في المصانع الكبيرة والمزارع، وايضاً في مختبرات البحث العلمي، على الراحة والدعة، فالمهم لديهم ليس ما يحصلون عليه من راتب او ارباح، بقدر توقهم الى إنجاز الجديد والوفير مع الحرص على الابداع والتجديد وما هو مثير ومطلوب في العالم، وبالنتيجة؛ المهم لديه، ظهور السلع والبضائع المصدرة من بلده، وعليه عبارة: "صنع في....".

وبذلك تحولوا من دول متخلفة من صنف العالم الثالث، الى دول متقدمة علمياً وتقنياً، فهي اليوم تأنف من الوقوف الى جانب دول تعيش يومها باستمرار مهما مرت السنين والعقود! ولا تفكر بالغد والمستقبل.

اضف تعليق