q

من اطلع على التاريخ الاسلامي جيدا، يعرف أن السلطة وامتيازاتها بالنسبة للامام علي (ع) أمر محتقَر تماما، ذلك أن أكثر شيء يمقته الامام (ع) هو السلطة، ومع ذلك بشهادة التاريخ والعالم أجمع هو الحاكم الأكثر عدلا في التاريخ، وهو الذي تعلم كيفية ترويض السلطة في مدرسة أستاذه النبي محمد (ص)، فكلما اقتربت منه السلطة كان (ع) يتجاهلها بالعدل والمساواة والكدّ بالبيد، فقد سكن الأراضي الواسعة، حاملا فأسه ضاربا الارض باذرا وزراعا وحاصدا من الغلال والمحاصيل المختلفة، فكانت يده تضرب الأرض كي تستقبل تربتها البذور، وكان عقله في ذات الوقت يدير شؤون المسلمين وأمورهم وما يحتاجونه في ظروفهم كافة.

هذا النموذج القيادي لم يعد متوافر بين المسلمين عموما والعراقيين خصوصا، على الرغم من أن هناك من يتبجح من العاملين في الطبقة السياسية بأنه من أتباع الامام علي (ع) والعاملين بمبادئه، والسائرين في خطه، ولكن حقائق الأمور والعمل المشهود تكشف الأمور على حقيقتها، حيث القول بالانتماء الى الامام علي شيء والعمل بمنهجه ومبادئه شيء آخر، لاسيما أن ظاهرة الكسل والفشل والتهرب من مواجهة المصاعب تعم مجتمعات المسلمين والعراق منهم، نعم هناك ظواهر كثيرة متخلفة، تسهم في هدر طاقات الفرد والجماعة.

ولكن اعلان التمسك بالسير على خطى الامام علي (ع) شيء، والانتساب الحقيقي لمنهجه والانتماء لمبادئه شيء مختلف تماما، فهذه الحالة تعد من الاسباب التي تعود بالفشل الذريع للفرد، واذا توسع اطارها فانها ستشمل بأضرارها المجتمع برمته، وقد لاحظ الخبراء المعنيون ان الاشخاص او المجتمعات التي تتصف بالتهرب من العمل، وتميل الى الدعة والتكاسل والخمول، تحاول أن تبتكر التبريرات التي تقنع بها الاخرين، حتى تبقى حالة التقاعس والخمول قائمة! ومن بين ذلك الاعلان الانتماء للنموذج، وعدم العمل بمنهجه كما يفعل الساسة.

أما لو اردنا البحث عما حققته شعوب اخرى مثل الهند وهي دولة ليست ذات أغلبية مسلمة، فإننا نلاحظ تطورها على نحو سريع وهائل، في حين هناك مجتمعات حققت قفزات هائلة نحو التقدم، لانها آمنت بأن العمل والابتكار هما الركيزتان الأساسيتان لتحقيق التقدم والانتماء الى الركب العالمي المتقدم، كما نلاحظ ذلك في القفزة التي حققتها الصين والكوريون واليابانيون وشعوب آسيوية اخرى ودول صغيرة اطلق البعض عليهم بالنمور في اشارة واضحة الى تميزهم بالقوة والارادة والاصرار على تحقيق قفزات متقدمة في العمل، كونهم استفادوا من نماذجهم القيادية التاريخية، كما حصل مع غاندي الهند، أما نحن فلدينا أمثلة قيادية كالامام علي (ع) فهو نموذج عالمي للحكام المتميزين ولكننا لم نستفد من ذلك قط.

ليس الفتى من قال كان أبي

ثمة قضية أخرى، فهناك بيننا من يتبجح بتأريخه العائلي وينسى أو يخفي منجزه هو، فعندما يتحدث يقول كان ابي واجدادي كذا وكذا، وعندما نبحث عمّا قدمه هو في جهده الشخصي للمجتمع فلا نعثر على شيء يذكر، وتعد هذه المشكلة اليوم من المشاكل الكبيرة التي ترافق حالة التبجح الفارغ، واقترانها بظاهرة ملاصقة لها يمكن وصفها بالتبجح واعلان التفوق على الاخر، ليس من خلال الابداع او الابتكار او الانتاج الذاتي الافضل، بل هناك من يتكاسل بحجة أن أباه من المنتجين الاثرياء، أو ان حسبه ونسبه عريقا وكبيرا، وهكذا توجد الكثير من انواع التبجح التي تلاصق ظاهرة التهرب من العمل، واكثرها وضوحا وخطورة، ظاهرة النسب والتبجح به على حساب العمل والانتاج الفعلي.

وقد نبّه الامام علي (ع) المسلمين الى هذه المشكلة، وجعل العمل يتقدم على النسب، اذ ما فائدة النسب عندما يكون وجود الانسان في الدولة والمجتمع والعائلة غير ذي فائدة، وهناك حكمة وردت في نهج البلاغة تتعلق في هذا الموضوع، إذ قال الامام علي (ع) في هذه الحكمة القيّمة: (مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ). وهذا يعني اذا كان عملك فاشلا، فإن نسبك لا يشفع لك، وهنا ينطبق على هذه الحالة بيت شعر شهير يقول:

ليس الفتى من قال كان أبي...

بل الفتى من قال ها أنا ذا ...

وهكذا فإن الإبطاء في العمل، يعني الكسل والخمول والعجز، وايجاد التبريرات الكثيرة للتهرب من العمل، سواء على مستوى الافراد او الجماعات، واذا حدث هذا الابطاء فإن النتيجة ستكون مضاعفة على الفرد ومن ثم على المجتمع، والادهى من ذلك، أن حسن النسب للاسرة العريقة لا يمكن ان يكون بديلا عن الانجاز المتميز، بمعنى ان الانسان الفرد والجماعة مطالبان كلاهما بتحقيق الانجاز المطلوب عمليا، ولا يصح التهرب من هذه المسؤولية مهما كانت الحجج، لاسيما قضية الانتساب الى عوائل واسماء عريقة، كالقادة والعلماء والشخصيات التاريخية، بل على العكس، إذ ينبغي أن يكون حسن الانتماء وعراقته، دافعا اضافيا لتحقيق النجاح والعمل الافضل، باعتبار ان من ينتمي الى اسرة عريقة وتنحدر جذوره من رجالات وشخصيات وتواريخ متميزة، عليه ان يشكل امتدادا لهم، لا أن يتذرع بهم ويتحجج بانجازاتهم لكي يتهرب من دوره في الحياة!.

قدسية الوقت المخصص للعمل

الشعوب الناجحة هي التي تقدس الوقت المخصص للعمل، وهذا ما ركز عليه الامام علي (ع) عندما كان يخصص نهاره لضرب الارض بالفأس زرعا وحصادا وما شابه، إن الابطاء تعني عدم الرغبة بالعمل، أو اضاعة الوقت، وهي ظاهرة تتصف بها المجتمعات المتأخرة، ومنها بل ربما في مقدمتها الشعوب العربية والاسلامية، إذ في الغالب لا يتم احترام وقت العمل ويتم التحايل من اجل تضييع هذا الوقت بعيدا عن الانتاج، ويتم ذلك بطرق تحايل عديدة، والنتيجة هي تأخر الفرد والمجتمع، وهناك مرافقة التبجح للتهرب من العمل، بحجة انه يتميز على الاخرين بنسبه وحسبه وانتمائه!.

من بداهة القول ان الحكمة التي وردت في نهج البلاغة، تذهب الى وجوب معالجة ظاهرة ترك العمل بسبب النسب، فالعمل والانتاج الفردي والجماعي، ليس له علاقة بطبيعة نسب الانسان، او انتمائه الى عائلة عريقة، مهما كانت الخدمات التي قدمتها تلك الاسرة للمجتمع، وهذا لا يعني أن يتبجح الانسان بتاريخيه الاسري، ويجعل من هذا التميز حجة او سببا للتهرب من العمل والابتكار، كذلك لابد أن تتنبّه الجهات المعنية كافة الى مثل هذه الظواهر الخطيرة من اجل الحد منها ومعالجة اسبابها، بمعنى تضع الخطوات الفعلية لمعالجة ظاهرة التكاسل والخمول.

كذلك لابد أن تفهم الجهات المعنية كافة، أن الانتقال بالمجتمع، من حالة الركود والسكون وعدم الانتاج، الى الحالة الاخرى، حالة التوثب والنشاط والحيوية والعمل الجاد، تستدعي خطوات عملية متواصلة، فضلا عن تحديث المنهج السلوكي للمجتمع، وهو امر ليس سهلا، ولا يمكن تحقيقه بالتمنيات فقط، او باجراءات عشوائية ارتجالية، او باتخاذ خطوات بسيطة غير مدروسة، لا توازي أهمية هذا الهدف الكبير، الذي يتكفل بنقل شرائح المجتمع كافة، من حالة السبات العملي والفكري، الى حالة الانتاج المبدع والالتحاق بالركب المجتمعي العالمي المتقدم، وهو امر ليس من السهل تحقيقه ما لم يتصدى له قادة المجتمع لاسيما من الساسة الذين يعلنون التمسك بمنهج الامام علي (ع) شرط التطبيق الفعلي لمنهجه وليس الاكتفاء بإعلان الانتماء.

اضف تعليق