q

في عالم تحكمه القوة، وتسوده لغة التهديد والابتزاز، تغدو حالة الضعف أمرا مرفوضا بصورة قاطعة، فالضعيف يكون في الخلف دائما، والنظرة إليه لن تكون كما يُرام او كما ينبغي، ولذا على الفرد والمجتمع والدولة أن يفهموا أن الاستعداد للصعوبات ومواجهة حالات التجاوز وفق نظام قوي وعادل، لا تعني رفض السلم بقدر ما تعني السعي لخلق حالة توازن لا مناص منها، كونها الطريق الى بيئة تقوم على الاعتدال.

خلق التوازن يحتاج الى قوة نظام عادلة وليست غاشمة، فقد تعلمت البشرية عبر رحلتها الطويلة والشاقة درسا جيدا، وفهمت ان الصراع والاقتتال والتصادم، قيم أكل عليها الدهر وشرب، وهي طرق موغلة في الغباء، حيث تنتهي بالجميع الى الخسارة الفادحة، وتترك الدمار والتخلف علامات دالة على انتصار الجهل والتعصّب، وغياب الحكمة، وإهمال التكافؤ في العلاقات الدولية والأدنى منها، علما أن الحاجة الى القوة العادلة هي القيمة الاساسية التي يمكن من خلالها، أن يحافظ الانسان على قيمته وحقوقه وشخصيته المتوازنة، فردا كان او مجتمعا، شريطة أن تتوافر ارادة قوية ذكية ومستقلة، تسعى الى تحقيق التوازن عبر وسائل عديدة.

إذاً في البحث عن خلق التوازن، سوف نحتاج الى معالجات وأساليب، أحيانا تبدو الحلول غائبة، وقد تصل الامور الى اقصى حالات التناقص، وتصبح لحظة اعلان الحرب بين دولتين او جهتين او شخصيتين امرا لا مفر منه، ولكن دائما هناك فرصة للعقل، وهناك قدرة على خلق التوازن من لدن نظام قوي وعادل، يحدث هذا عبر التكافؤ في العلاقات، وسوف تكون النظام العادل طريقا الى التكافؤ، وهناك من يرى سبيلا آخر لتحقيق الهدف نفسه عبر النقاش والتحاور.

ولكن هناك بعض المفكرين والفلاسفة (كما نلاحظ ذلك في أفكار نيتشة مثلا)، وجدوا في القوة المفرطة بديلا للنظام العادل، ونادوا بالحرب والاقتتال، وارتكزت افكارهم على التطرف، فقد دعا بعضهم الى فرض الارادة والرأي بالقوة، وذهب بعضهم الى أن الوسيلة الوحيدة التي تحفظ كيان الانسان والمجتمع، هي استخدام القوة ضد الآخرين، واذلالهم، واجبارهم على الخضوع، وقد قدم لنا التاريخ دروسا بالغة الاهمية في هذا المجال، واثبتت معظم الوقائع الكبرى في هذا المجال، بأن القوة مهما تعاظمت، ستبقى ماضية في طريقها الى الضعف والاضمحلال والزوال، فكثير من الامم القوية التي فرضت هيمنتها على العالم اجمع، انطفأ حضورها مع الزمن، وماتت حضارتها، بسبب القوة المفرطة وضعف الحوار، ويعزى ذلك ايضا الى أنها اهملت ايجاد النظام العادل، فضلا عن اهمالها للعلاقات القائمة على التوازن.

دروس تعلمها الانسان بصعوبة

في بداية نشأته وجد الانسان نفسه في بيئة تحارب نفسها، وكانت حالة الاقتتال عنوانا لها، حتى القوت اليومي للانسان لم يتمكن من الحصول عليه بدون قتال مع الكائنات المفترسة التي تقاسمه المكان وتلازمه العيش ليل نهار، فقد وجد الانسان نفسه بين مئات الحيوانات المفترسة والضعيفة، وبدأ منذ ذلك الحين يتعلم درسا مهما، هو البحث عن السلام من خلال توازن القوى، كذلك تعلم حماية نفسه بالقوة اذا تطلب الأمر، وبدأت أساليب تحسين الحياة واستقرارها تنمو وتزدهر مع ازدهار عقل الانسان.

فالحاجة والضغوط القاسية التي مرت بها البشرية في رحلتها الطويلة، جعلت الانسان يتعلم درسا مهما من التصادمات الكثيرة التي خاضها ضد نفسه وغيره، ومن صراعاته الساخنة والباردة حول فرض الارادات، فعرف أن النظام العادل هو الوسيلة النبيلة التي يمكنها ان تحقق للجميع كرامتهم واهدافهم وتحمي حقوقهم، على أن تتميز العلاقات بشرط أساسي هو التكافؤ بين الاطراف المتحاربة او المتناقضة، ونعني بالتكافؤ، تعادل الكفتين بين المتحاورين، أما اذا ظهرت حالة فرض الارادات، وحاول احد الاطراف أن يفرض رأيه ومنهجه ومقترحاته وافكاره بالقوة على الطرف الاخر، فإن قدرة النظام العادل على التأثير هنا ستكون ضعيفة، لذا صارت الحاجة الى التوازن وصناعة القوة العادلة امرا لا يمكن التخلي عنه في عالم تشتبك فيه المصالح.

ولعلنا لا نخطئ اذا قلنا ان من اهم الدروس التي تعلمها الانسان في رحلته الطويلة، هو درس العلاقات المتبادلة مع الآخرين، على مستوى الافراد والجماعات والدول، وقد اضطر لذلك بسبب تعدد المصالح وتشابك المآرب، وتعقّد الحياة يوما بعد آخر وجيلا بعد جيل، علما أن حالة التوازن في العلاقات تتبع درجة الحكمة والذكاء الذي يتحلى به الانسان، لاسيما قادة الجماعات والدول كالانظمة والحكومات والحكام، فكلما كان الحاكم حكيما كلما كان التوازن شعار ومسارا له، والعكس صحيح اذ ان الحاكم المتهور لا يعبأ إلا بمصالحه حتى لو استخدم القوة لتحقيقها.

لذلك كما يرى الخبراء والعلماء المعنيون أن مجتمعاتنا بحاجة الى وسيلتين، الاولى صناعة النظام العادل الملتزم بالقوانين والشرع والاعراف والانسانية، وهذه القوة ستكون مصدر سلام وبعيدة عن العنف ومصدر للتوازن، والوسيلة الثانية خلق التوازن من خلال تضعف العلاقات والتفاهمات المشتركة بعض الشيء، أما الحالة المعاكسة فتعني بلوغ مرحلة الحرب والاقتتال، وهذا دليل على فشل القوة وغياب حالة العدل عنها.

خطوات مهمة في حياتنا

من الخطوات المهمة للافراد والجماعات، استحداث سبل جديدة لصنع الاستقرار، وهذا لن يتحقق من دون خلق توازنات بين الاهداف والمصالح من جهة، وبين سبل تحقيقها من جهة اخرى، ليس امام الانسان سوى ايجاد السبل لجعل العالم اكثر توازنا، وهذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال صناعة نظام عادل تنحصر اهدافه في المساعدة على كبح الشخصيات السيئة والنزعات التي لا تؤمن بعدالة النظام، ولا ترى في الحوار طريقا لصنع الوئام في العالم.

لذا من أهم ما يمكن أن يسعى إليه الانسان في هذا المجال ومن أهم الاجراءات التي ينبغي ان يتحرك لتحقيقها، والتشجيع عليها، هو مبادرة الجهات المعنية في مجتمعاتنا، ونعني بها الجهات والمنظمات الرسمية والاهلية، الى بث ونشر العلاقات المتكافئة، وزرع حالة الاطمئنان في نفوس الناس منذ بدايات النشوء، بمعنى من الافضل أن تنمو شخصية الطفل وتتشكل فيها منظومة قيم مجتمعية، من بينها اللجوء الى التفاهم مع الاقران والوسط الذي يتحرك فيه الانسان، لحل المشكلات التي قد تظهر هنا او هناك، والابتعاد عن الصراع، واللجوء الى لغة هادئة واضحة يؤطرها الذوق والحس الانساني، وتؤازرها القوة العادلة التي يمكنها نشر السلام بين الجميع بعيدا عن الاستهداف المسبق والظلم لتحقيق مآرب ومصالح على حساب الآخر.

هكذا خطوات واجراءات ستكون عاملا حاسما لنشر الاستقرار في المجتمعات، وبين الدول، وهذا يساعد على جعل العالم اكثر استقرارا، ولكن ينبغي أن لا ينسى المعنيون، أن الامر يحتاج ايضا الى بناء شخصية الانسان على الوئام، وليس تنسيق السياسات والعلاقات العالمية فقط، فبناء الفرد هو نقطة الشروع الاولى لبناء المجتمع والدولة صعودا الى العالم كله، وهذا الامر لا يمكن تحقيقه إلا بالتوازن الذي يدعمه نظام عادل ينأى بنفسه كثيرا عن التجاوز والظلم.

اضف تعليق