q
منذ أن وعى الإنسان مكانته الوجودية، ومنذ أن بدأ التفكير بالأسئلة الكونية الكبرى، عن الحياة، وعن الموت، وعن الحقيقة، وعن الحق، والعدل والحرية، منذ ذلك الحين أخذت تضغط عليه فكرة تكوين المجتمع السعيد، الخالي من شوائب المصلحة الفردية أو الفئوية، ونبذ الصراعات وعدم التكالب على المغانم المعنوية والمادية، كالسلطة والنفوذ والمال...

أدب المدينة الفاضلة، هو الأدب الذي يُعنى في بناء وابتكار مدن يعيش فيها الناس في سلام ووئام، على أن يتم ذلك في ظل القيم والمبادئ التي تحمي الجميع وتجعلهم متساوين تحت سقف من الأنظمة والقوانين التي تحترم إنسانيتهم وترمّن كرامتهم.

فمنذ أن وعى الإنسان مكانته الوجودية، ومنذ أن بدأ التفكير بالأسئلة الكونية الكبرى، عن الحياة، وعن الموت، وعن الحقيقة، وعن الحق، والعدل والحرية، منذ ذلك الحين أخذت تضغط عليه فكرة تكوين المجتمع السعيد، الخالي من شوائب المصلحة الفردية أو الفئوية، ونبذ الصراعات وعدم التكالب على المغانم المعنوية والمادية، كالسلطة والنفوذ والمال.

خلق هذا المجتمع السعيد يمكن أن يكون واقع مُعاش في ظل (مدينة فاضلة)، تنتفي فيها النزاعات بكل أشكالها، بسبب انتفاء أسباب هذه النزاعات، فليس هنا أي داع لنشوء صراع أو تصادم أو نزاع، لأن المكاسب المادية لا وجود لها في تطلعات وحسابات الإنسان في مثل هذه المدن الفاضلة.

لذا نقرأ في المصادر إن أدب المدينة الفاضلة أو الطُوبَاوِيّة أو المِثَالِيّة أو يوتوبيا (باليونانية:οὐ-τοπος ) الطوبى هي مكان خيالي قصي جدا أو (المدينة الفاضلة) وهي ضرب من التأليف أو الفلسفات التي يتخيل فيها الكاتب الحياة في مجتمع مثالي لا وجود له، مجتمع يزخر بأسباب الراحة والسعادة لكل بني البشر.

وإلى هذا المعنى في اليونانية يرجع استخدام المصطلح الذي اشتقه سير توماس مور في رواية (يوتوبياutopia ) وهذه الكلمة الأجنبية لا أصل يونانياً لها، عدا كلمة topos وهي تعني المكان، والمقطع الأول U يعني «لا»، أي: لا مكان.

أساليب مختلفة عن المدن الفاضلة

ولعل هذا النوع من التأليف يضرب بجذوره في جمهورية أفلاطون التي تقدم رؤيته في السياسة والحكم، ومن ثم يغلب على أعمال الأدب الطوباوي طابع سياسي حالم بمجتمع فاضل يسعد أهله بلا استثناء. ومن هذا النوع في العربية المدينة الفاضلة للفارابي. والطوبى هي من نوادر الجموع لكلمة طيّب، وتعني الغبطة والسعادة والحظ والخير، ومنها كلمة الطوباوية، وهذه تعني ما وراء الخيال وما فوق الواقع.

وهكذا بقي الإنسان يحلم في مدينته الفاضلة التي تنجيه من مشكلة التناحر والتضارب والاحتكار، وهي غالبا ما تحدث بسبب تضارب المصالح، واتساع الرغبة بالاستحواذ، وهذا ما بدأ بالظهور والتزايد مع تنامي النزعة المادية، والتسابق بين بني البشر لحيازة المال، والوصول للسلطة والقوة والامتيازات التي تنتج عنها.

ونتيجة لضغوط العالم الجديد، وللتعقيدات الجديدة والشديدة في حياة الإنسان، ظهرت الكتابات المتنامية عن نشوء المدينة الفاضلة، فظهرت في الأجناس الأدبية المختلفة، وفي مقدمتها السرد الروائي، والقصصي، حتى في الأشعار ظهرت ملاحم تحلم بالمدينة الفاضلة، وظهر ذلك في الأدب المسرحي أيضا.

واستخدم العديد من الأدباء والكتاب أساليب مختلفة لبناء مدنهم الفاضلة، ومنهم من لجأ إلى الأسطورة والخيال، منتقدا ما آلت إليه حياتهم الآنية المعقدة، ومن هؤلاء كاتب القصة العراقي الراحل (جليل القيسي) الذي كتب عشرات القصص مزج فيها بين الأسطورة والخيال، حالما بالأماكن والمدن والمجتمعات الأولى التي عاشت في وئام وتناغم وتعاون وسلام.

وتؤكد المصادر في عديد من الثقافات والمجتمعات والديانات، حيث تروي بعض الأساطير أو ذكريات الماضي السحيق كيف عاش الجنس البشري في حالة بدائية وبسيطة، ولكن في الوقت نفسه حالة سعادة تامة ورضى. فتروي مختلف الأساطير أنه في تلك الأيام كان هناك تناغم غريزي بين الإنسانية والطبيعة؛ وكانت حاجات الناس قليلة ورغباتهم محدودة؛ فاستوفوا رغباتهم وحاجاتهم تلك بسهولة بالوفرة التي قدمتها الطبيعة.

مزايا المجتمعات الدينية البسيطة

لذلك، لم تكن هناك دوافع على الإطلاق للحرب أو القمع. ولم تكن هنالك حاجة إلى القيام بعمل شاق ومضنٍ. كان البشر بسطاء وأتقياء وشعروا بقربهم من الرب. بحسب إحدى النظريات الأنثروبولوجية، حين كان المجتمع البشري قائم على الجمع والالتقاط، وهو مجتمع الرخاء الأول.

وتظهر تلك الروايات أو الدينية ضمن حضارات كثيرة، وتبرز ثانية بحدة خاصة عندما يكون الناس في أزمنة صعبة وحرجة. غير أن إسقاط الأسطورة في الأدب الطوباوي لا يحدث تجاه الماضي البعيد، بل إما نحو المستقبل أو نحو أماكن بعيدة وخيالية، متصورين إياها في وقت ما في المستقبل، أو في مكان ما في الفضاء، أو بعد الموت؛ يجب أن توجد إمكانية للعيش بسعادة.

وقد أظهرت دراسات عديدة أن المجتمعات البسيطة المؤمنة، عاشت أكثر من تلك المجتمعات التي تقوم على التنازع المادي، أو تلك التي تقوم على العلمانية في أساليب حياتها، فقد تفحص عالم الأنثروبولوجيا ريتشارد سوسيس 200 مجتمع محلي في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، دينية وعلمانية على السواء (غالبًا مجتمعات اشتراكية طوباوية). كان 39% من المجتمعات الدينية لا يزال فاعلًا بعد 20 عامًا من تأسيسها، في حين أن 6% فقط من المجتمعات العلمانية بقيت فاعلة.

إن عدد التضحيات المكلفة التي طالبت بها جماعة دينية من أعضائها كان له تأثير خطي على طول عمرها، في حين أن المطالب بالتضحيات المكلفة في الجماعات العلمانية لم تكن مرتبطة بطول العمر وفشلت غالبية المجتمعات العلمانية في غضون 8 سنوات من تأسيسها.

وهكذا فإن مفهوم أدب المدينة الفاضلة، بدأ مع الفلاسفة الأوائل، أفلاطون، والفارابي، وغيرهما، وهو يُعنى بالآداب التي كانت ولا تزال وستبقى، تقدم وتبني الأمكنة الخالية من الحروب، لأن الإنسان سيبقى متعطشا لجذوره المسالمة، حين كانت المادة قيد الفناء.

اضف تعليق