q
المثقف والسياسي تفصل بينهما تناقضات كثيرة، هذا ما عرفناه من تصنيفات وآراء ومسميات قرأناها أو سمعنا بها من مثقفين وسياسيين، وهذا يجرّنا إلى التساؤل عن التناقض بين الثقافة والسياسة، وهل هناك فرصة لكي يتقاربا ويلتقيا لكي يعملا معا؟ هل يمكن الوصول إلى درجة جيدة من التعاون...

المثقف والسياسي تفصل بينهما تناقضات كثيرة، هذا ما عرفناه من تصنيفات وآراء ومسميات قرأناها أو سمعنا بها من مثقفين وسياسيين، وهذا يجرّنا إلى التساؤل عن التناقض بين الثقافة والسياسة، وهل هناك فرصة لكي يتقاربا ويلتقيا لكي يعملا معا؟

هل يمكن الوصول إلى درجة جيدة من التعاون، ومتى يمكن أن يحدث هذا ذلك، ولماذا يحدث، أي هل هناك سبب معين لكي تتجانس السياسة والثقافة؟

الثقافة فكر ومبادئ، والسياسة أيضا فكر ومبادئ، وفي هذا الركن المهم يلتقي المثقف والسياسي، فكلاهما يحمل فكرا ومبادئ، وهذان يحدّدان المسيرة الفعلية لكل منهما، فالفكر الثقافي الحر الجريء المتوازن والأصيل، يصنع مثقفا أصيلا فعّالا وفاعلا.

ينطبق ذلك على السياسي أيضا، فإذا كان الفكر والمبادئ التي يؤمن بها السياسي متوازنة عادلة أصيلة، سوف نقف أمام سياسي ناجح مخرجاته كلها تصب في صالح الوطن.

متى يمكن أن يحدث التصادم بين الاثنين، المثقف والسياسي، الثقافة والسياسة؟، ومتى يمكن أن يحدث التلاقي بينهما؟

المثقف والسياسي يتصادمان في حال كان المثقف تنويريا مبدئيا، والسياسي مصلحيا أنانيا جاهلا، والجهل هنا ليس بنتيجة أو مستوى التحصيل العلمي، وإنما يتعلق بالجهل الثقافي الذي يجعل من السياسي جاهلا بدوره وضاربا للمبادئ والقيم عرض الحائط.

الفارق بين أهداف السياسة والثقافة

في هذه الحالة سوف يحدث تصادم قوي بين المثقف والسياسي، لأنهما يتناقضان في الأهداف والغايات والأساليب وحتى الأفكار، فالمثقف أحد مخارج الثقافة وتناقضه مع السياسي يتأتى من طبيعة ثقافته.

الأمر نفسه يحدث مع السياسي، فهو صنيعة فكر سياسي قبل كل شيء، وهذا الفكر يتغلغل في عقله وتكوينه وشخصيته، ويظهر في تفكيره وسلوكه، ولأن أهداف الثقافة والسياسة على اختلاف وتناقض، لهذا يحدث التجافي بين الطرفين.

السياسة تهتم بالمصالح المادية (العسكرية، الأمنية، الاقتصادية) وغيرها، أما الثقافة فإنها تُعنى في بناء عقلية الإنسان وطبيعة شخصيته وأفكاره وسلوكه، وللفكر الثقافي تأثير كبير على الساسة والسياسة معا.

لهذا تسعى السياسة إلى احتواء الثقافة والمثقفين، لاسيما في الأنظمة التسلطية، وحتى في الأنظمة الديمقراطية الضعيفة والمتوسطة، هناك حروب تشتعل بين الطرفين، كأن الثقافة هي العدو الأول للسياسة، والمثقف هو العدو الأول للسياسي، هذه الإشكالية لم تخلُ منها حقبة تاريخية معينة، على مدى التاريخ البشري هناك صراع بين المثقف والسياسي.

وطالما أنهما (المثقف والسياسي) نتاج حاضنتين مختلفتين (الثقافة والسياسة)، فإن الصراع لا يتوقف، خصوصا في ظل الأنظمة الدكتاتورية، فهذه الحكومات لا تعترف بالمثقف ولا بالثقافة ولا بالفكر والمفكرين، فتقوم بتهميشهم وإبعادهم وتحجيمهم، ونفيهم وتشريدهم، وسجل التاريخ حافل بمثل هذه السلوكيات السياسية الآثمة ضد المثقفين والمفكرين.

ماذا يمكن أن نتوقع من ثقافة تصنعها السياسة؟، وعندما نعكس السؤال ونسأل، ماذا يمكن أن يحدث لو أن الثقافة هي التي تصنع السياسة؟، لابد أن يكون الفارق هائلا، بل سيقع على طرفي نقيض تماما، فالثقافة التي تكون صنيعة النظام السياسي، لا يمكن لها أن تخرج عن دور البوق المروّج لأفكار ومصالح الحكومة.

المثقف المصنَّع سياسيا

بهذا سوف تصبح الثقافة التي تصنعها السياسة أسيرة وموجَّهة وخالية من الفكر ولإبداع، بسبب فقدانها لحرية الرأي والابتكار.

لا يمكن أن نتصور ثقافةً مسلوبة الحرية والارادة قادرة على أن تبدع، أو تجرؤ على التغريد خارج السرب، أو خارج ما يخطط لها السياسي، وقد أثبتت التجارب في الدكتاتوريات التي تعملقت في امريكا اللاتينية، وبعض الدول الافريقية والعربية، فشل الثقافات المصنّعة سياسيا، كونها لا تتمتع بحرية الطرح والرأي والتفكير.

كما ثبت أن المثقّف المصنَّع سياسيا غالبا ما يكون عاجزا عن مهمة التنوير، ومتلاشيا، وفاقدا لقدرته الثقافية المؤثرة في الناس، فهو يعرف دوره جيدا، ويعرف أنه مصنّع سياسيا، وأنه اكتفى بهذا الدور الترويجي للسلطة مقابل تأمين عيشه هو وأسرته، ولا علاقة له بما يحدث من تجاوزات وأخطاء سياسية بعضها ينتهي بالكوارث.

المثقف المصنَّع سياسيا محاط بالممنوعات، لا يمكن لفكره أو ثقافته أن تجاري التطورات المتسارعة في عصرنا، واذا كانت الثقافة المصنَّعة سياسيا فاشلة في الازمنة الغابرة، فإن فشلها في هذا العصر سيكون أكثر وضوحا، بل سيكون فشلا مدوّيا، بسبب طبيعة العصر القائمة على الابتكار، والافكار الخلاقة المتجددة.

هناك حالات نادرة تجمع بين المثقف والسياسي، يحصل هذا في حال تحول السياسي إلى مثقف ومفكر، أو أنه يجمع بين المهمتين الثقافية والسياسية، وحدث هذا في بعض الأنظمة التي كانت تنظر للثقافة كصديق لها، وليس عدوّا يهدد سلطتها، كذلك حدث تقارب بين مثقفين أصلاء وساسة كبار، بسبب كون الرابط الثقافي والفكري بينهما قويا وفاعلا وأصيلا.

في بلداننا المتأخرة عن الركب العالمي كثيرا، نحتاج إلى نوع من الصلح الحقيقي بين السياسة والثقافة، بين السياسي والمثقف، بين المفكرين والساسة، لماذا هذه الحاجة؟، وما درجة أهميتها، في الحقيقة هي حاجة كبيرة يجب أن يعيها الطرفان المتناقضان، ويتحولان من عدوّين إلى صديقين ونعني بهما (المثقف والسياسي).

هذان الطرفان يقوم عليهما جانب كبير من أسس البناء الاجتماعي وبناء الدولة ونظامها السياسي، وأي تناقض وعدم تقارب بين (المثقف والسياسي) هو مؤشّر قاطع على تخلّف الدولة، وتردّي حالة المجتمع، وانهماك الساسة بمهام تبعدهم عن بناء الدولة.

أما المؤشر الحاسم على نجاح الدولة والمجتمع، فهو يتجسَّد في درجة التقارب والانسجام والتشابه بين الثقافة والفكر من جهة، وبين السياسة وقادة مؤسساتها من جهة أخرى.

اضف تعليق