q
لم تنتهِ ابتكاراته في معاقبة التلاميذ عند هذا الحد، فكان من أشد أساليبه النفسية أيضا (عقوبة الممحاة)، ولا أعرف أي عقل خبيث وغريب في لؤمه يبتكر عقوبات كهذه، عقوبة الممحاة تبدأ بمناداة المعلم المتنمّر على التلميذ المعاقَب، وتكون السبورة ممتلئة بكتابات الطبشور الأبيض المصنوع من (الكلس الأبيض أو النورة)...

لا يزال الكهل المُقْعَد يجلس على الكرسي المتحرّك وهو يراقب المارة بعينين منكسرتين، ربما ينتظر شيئا ما، لم يحصل عليه بعد، منذ سنوات وأنا أراه جالسا في المكان نفسه، على كرسي المقعدين محنيّ الظهر، لكنه كان يرفع رأسه أحيانا فتقعُ عيناه في عينيّ، وأسترجع حكايتي المؤلمة معه، ليس حكايتي وحدي وإنما هناك كثيرون مثلي لا زالوا يتألمون كلّما مروا من جانب الكهل المقعد، وأبصروا نظرات الانكسار في عينيه.

لا أستطيع أن أصدق أن هذا الكهل الذي أرعب قلوب الصغار، يجلس اليوم على كرسي متحرك يخيّم عليه الندم والإحباط، فحينما كان شابّا تجاوز العشرين بقليل، كان صدره عريضا وجسده مفتولا ورأسه مرفوعا وبصره كالحديد، أما صوته فيمكن أن يزرع الخوف في نفوس التلاميذ من مسافات بعيدة، فكنا نحن التلاميذ الصغار، بمجرد أن نسمع صوته من بعيد، ترتجف أجسادنا، وينهض الخوف في أعماقنا، لقد صنع لنفسه شخصية متنمّرة قاسية مخيفة، وجعل من قلبه فارغا تماما من الرحمة أو الرأفة.

حين كان يدخل علينا الصف، يتحول المكان إلى مقبرة خرساء، كل أجسادنا تتجمد، اصابعنا، أرجلنا، أيدينا، رؤوسنا، أجسادنا كلها تتجمَّد، عيوننا فقط تستدير في محاجرها دون أن تلتفت الرؤوس، السبورة هي الشكل الوحيد الذي كنّا نبصرهُ كونها تقع أمام عيوننا، وصوته هو الوحيد الذي نسمعه دون أن نجرؤ على الاستدارة للخلف أو الجانب.

أي رعب زرعه فينا هذا الكهل المقعد حين كان شابّا مفتول العضلات، ثاقب البصر، ممشوق الجسد، كان مختالا بنفسه لدرجة لا يمكن تصوّرها، وكانت لديه أساليب وطُرق غريبة من العنف ضد التلاميذ الصغار، منها ما يؤلم الجسد ويصنع الوجع الهائل لهم، ومنها ما يؤلم النفس ويزرع فيها التعقيد حتى سنوات متقدّمة من العمر، كما يحدث معي الآن، فأنا لا أستطيع أن أنسى ما فعله بي في الصف وأمام عيون الأطفال، ليس وحدي بالطبع، فمعظم صغار الصف من أقراني تعرضوا لما تعرضتُ له.

أحد أساليبه الموجعة، كان يضع الطالب الصغير بين ركبتيه، ويحصر جسده النحيف بقوة ويبدأ بالضرب القوي المبرح على رأس الطالب، بعضنا كان يسقط مغشيّا عليه من شدة الضرب بقبضة اليد الكبيرة على رأس الطالب الصغير.

حدث هذا معي شخصيا، لا زلت أتذكر كيف تطبق ركبتيّ المعلّم المتنمّر على جسدي، ثم تبدأ قبضة يده بالضرب على رأسي بقوة وسرعة عجيبة، ولا ينفع الصراخ أو البكاء، ولا يجوز الاعتراض من الأهل أو إدارة المدرسة، لا ينفع شيء لإيقاف أذى هذا المعلّم سوى الهروب من المدرسة إلى غيرها أو ترك الدراسة إلى الأبد!!

من أساليبه كان يقذف بالطبشور على رأس الطالب بقوة، وإن نجح بإصابته فإنه يُحدِثُ فيه ورَما فوريّا، مع اندلاع الصراخ المؤلم، ومن أساليبه النفسية القاسية، يأمر الطالب بالوقوف في زاوية الصف بجانب سلة المهملات ويطلق سيلا من الاهانات للطالب المعاقَب، ويقول له أنت لا تختلف عن (الزبالة) بشيء، ويكرّر هذه الجملة (أنت زباله، أنت زبالة) ويرفق كلماته هذه بالإشارة إلى الطالب الذي يتسمّر بمكانه قرب سلة المهملات.

أحد أقراني أخبرني بعد أن عانى من عقوبة (الزبالة) قائلا: بدأتُ اشعر بأنني (زبالة) فعلا، لا أستطيع أن أتخلّص من هذا الشعور، كنتُ أسمعه ولا أستطيع أن أنقذه من هذا الشعور، وكانت أشد العقوبات التي أخشاها من هذا المعلم عقوبة (الزبالة).

لم تنتهِ ابتكاراته في معاقبة التلاميذ عند هذا الحد، فكان من أشد أساليبه النفسية أيضا (عقوبة الممحاة)، ولا أعرف أي عقل خبيث وغريب في لؤمه يبتكر عقوبات كهذه، عقوبة الممحاة تبدأ بمناداة المعلم المتنمّر على التلميذ المعاقَب، وتكون السبورة ممتلئة بكتابات الطبشور الأبيض المصنوع من (الكلس الأبيض أو النورة).

يأمر المعلم الطالب أن يأتي ويقف إلى جنبهُ، ثم يأمره أن يعطي ظهره للسبورة ووجهه للطلاب، بعد ذلك يرفع هذا المعلم جسد التلميذ إلى الأعلى ويبدأ يمسح كتابة الطباشير بظهر الطالب إلى أن يمحو جميع الكلمات وتعود السبورة إلى لونها الأسود، ثم يُنْزِل الطالب وظهره مليء بغبار الطباشير، أما وجهه فيكون مليئا بالذل والانكسار وعدم الشعور بالكرامة.

هذه العقوبات المبتكَرة، كان يقوم بها هذا الكهل المُقْعَد على كرسي متحرّك، وهو الآن حيث أمرّ من جانبه ينظرُ إليّ بعينيْن منكسرتين، ولا أدري إن كان يعرف أنني أحد طلابه الذين كان يتنمّر عليهم، ربما لم يكن يفكر بهذه العاقبة حين كان قويا، حاولتُ أن أنسى عقوباته لي وللتلاميذ الصغار، وفكّرتُ أن أقترب منه لأخفف عنه بعض آلامه وانكساره وإحباطه، لكنني لا زلتُ أشعر إلى الآن بحرْقة شديدة في ظهري حين أتذكر عقوبة الممحاة، حيث رفع جسدي الصغير إلى الأعلى وبدأ يمسح كلمات السبورة بظهري.

ألقيتُ عليه نظرة أخيرة، ومضيتُ في طريقي مبتعدا عنه، كنتُ أتألم عليه في داخلي، لكنني لم أستطع مساعدته حتى ولو بكلمة واحدة تخفّف عنه، فمن كان قويا متنمرا بالأمس، عليه أن يفكّر بأيام ضُعْفِهِ القادمة، ويفهم بأنه من المحال أن يبقى متنمرا قويا إلى الأبد...

اضف تعليق