q
الكفاءة العلمية وحدها لا تنجح في توصيل المادة إلى الطلاب، شخصية المعلم وأسلوبه في التدريس، وقدرته على كسب ثقة الطلاب ومحبتهم، عامل فعّال في تحقيق نسب نجاح كبيرة بين الطلاب، بالإضافة إلى خلق علاقة نموذجية بين التدريسي والطالب، وكما يُقال إذا أردت أن تنجح في شيء عليك أن تحبّه...

هناك سؤال يُثار أحيانا حول ماهيّة الشروط التي تؤكّد كفاءة المعلّم أو التدريسي من عدمها؟، فهل تكمن هذه الكفاءة في تنوّع مصادره وسعة معلوماته وتبحّره في هذا المجال أو ذاك، وهل يكفي أن يكون مطّلعا بشكل جيد على المادة الدراسية التي يقوم بإعطائها للتلاميذ، بغض النظر عن كونها مادة علمية أو إنسانية؟

إتقان التدريسي لمادته العلمية التي يقدّمها للطلاب، شرط جوهري لنجاحه، لكنّ هذا الإتقان ليس شرطا حاسما، فهناك عوامل مساعدة أخرى سوف نذكرها لاحقا، توازي أهمية الكفاءة المعلوماتية للمعلّم، وهذا يعني أنه مهما كان ذكيا وملمّا ومتبحرا في مادته، لكنه قد يخفق في تحقيق درجة نجاح جيدة، بل هناك من هو أقل كفاءة علمية منه، تمكّنَ بمساعدة عوامل أخرى أن يتفوق في تحقيق نسبة نجاح عالية لطلابه.

أين يكمن السبب بالتحديد، ولماذا لا تتحقق الكفاءة بالإتقان العلمي وحده؟، حيث يُفترَض بالتدريسي الملم بمادته، والمتبحّر بها، والمسيطر عليها، أن يحقق نسبة نجاح عالية لطلابه، فلماذا (قد) يتفوق عليه تدريسي أقل كفاءة علمية منه؟

في دراستي المتوسطة تعاقب علينا أكثر من مدرّس في مادة الكيمياء التي يصفها البعض بأنها مادة علمية جافة، لاسيما برموزها وأرقامها ومعادلاتها الكيمياوية، وقد اخترت درس الكيمياء لأنه مادة صعبة وفيها تعقيد وتحتاج إلى دقة وتركيز ونباهة عالية، كما أنها تحتاج إلى مدرّس مختلف، لا يشبه مدرّس التاريخ أو الجغرافية أو الاقتصاد مثلا، فهذه الدروس الانسانية يمكن استيعابها بسهولة أكبر، أما الدروس العلمية ومنها الكيمياء، فإنها تحتاج إلى مدرّس مختلف وأسلوب مغاير.

محمد رشيد مدرِّس متخصص بتدريس مادة الكيمياء للمرحلة المتوسطة، هذا المدرس لديه عاهة مستديمة، أصابت أهم ما يحتاجه المدرّس للنجاح في عملية التدريس، وهي البصر، لا زلت حتى هذه اللحظة بعد مرور عقود طويلة على دراستي في الصف الثاني متوسط، أتذكر وجه محمد رشيد، وأتذكر بدقة معاناته الكبيرة وهو يلقي المادة العلمية على طلاب الصف.

كان الأستاذ محمد رشيد يعاني من قلّة البصر وضعفه، إذ كانت إحدى عينيه مغلقة تماما ولا يرى فيها أي شيء، والعين الأخرى مفتوحة إلى النصف أو أقل، فكان وجهه يذكرنا بالناس المصابين بالعمى، ويذكّرنا أيضا بأدباء ومفكرين وشعراء فقدوا بصرهم لكنهم واصلوا عملية الإبداع، كالروائي الشهير (بورخس)، الذي تميّز بإبداعه الأدبي الفلسفي والروائي حتى بعد انطفاء النور في عينيه إلى الأبد.

لم يكن وجه المدرس محمد رشيد جميلا، بسبب التشوّه الذي أصاب عينيه، كانت أجفانه تلتقي وتفترق بسرعة كجناحيّ نحلة، حتى العين التي كانت تمنحه بصيصا ضئيلا كانت تعذّبه باستمرار بسبب سرعة حركة الجفون، وكانت المادة العلمية تتطلب كتابة الكثير من المعادلات الكيمياوية، وحين كان الأستاذ محمد رشيد يكتب جملة أو معادلةً فإنه يلصق وجهه على السبورة السوداء حتى يتأكد من صحّة الحروف والرموز التي يكتبها.

ولابد أن أذكر محاسن هذا الأستاذ المصاب بعلّة (فقدان البصر)، فقلما كان يشعر بالضيق أو الحرج من وضعه الخاص أمام طلابه، كما أن طيف الابتسامة لا يفارق ملامح وجهه طيلة المحاضرة، هناك ظل ابتسامة مرسومة على وجهه وليس شفتيه فقط، وكان متفائلا يشيع البهجة في الصف، ويشعر الطلاب أنهم في غاية الانبساط، كما أنه لا يتوقف عن الشرح والكتابة إلى أن يتأكد من جميع الطلاب بأنهم استوعبوا المادة الجافة.

كان الأستاذ محمد رشيد يتحلى بمتناقضات عديدة، وهذا ما جعله مدرّسا متفوّقا يحقق نسب نجاح عالية لطلابه، من هذه المتناقضات أنه كان متبسِّم الوجه رغم العمى الذي أصابه، كما أنه واثق رغم ضعفه الجسدي، وصبور رغم وضعه الحرج خصوصا أثناء الكتابة، حين يضطر أن يلصق وجهه بالسبورة كي يكتب الحروف والرموز بشكلها الصحيح.

شعاع الحزن والوقار الذي كان يتدفق من عينه لم يمنعه من أن يبقى بشوشا، فيختلط الحزن والوقار بالبشاشة التي تشيع أجواء الراحة والبهجة في الصف.

أتذكّر بأنني شخصيا كنتُ أعاني من قلة درجاتي بمادة الكيمياء لسنتين متواصلتين، حيث تعاقب على تدريسها لنا ثلاثة مدرّسين، جميعهم لم يفلحوا في تأقلمي واستيعابي لجفاف الكيمياء ومعادلاتها، الوحيد الذي جعلني أحب درس الكيمياء هو الأستاذ (محمد رشيد)، وصرتُ أحصل في الامتحانات الأسبوعية والشهرية على درجات عالية، كما أنني بدأت أفهم أصعب المعادلات الكيميائية، حتى أنا نفسي استغربت كيف تحقَّق هذا الانسجام الكبير، بيني وبين هذا الدرس الذي لم أنجح فيه، إلا عندما بدأ الأستاذ البصير (محمد رشيد) بتدريسه.

الكفاءة العلمية وحدها لا تنجح في توصيل المادة إلى الطلاب، شخصية المعلم وأسلوبه في التدريس، وقدرته على كسب ثقة الطلاب ومحبتهم، عامل فعّال في تحقيق نسب نجاح كبيرة بين الطلاب، بالإضافة إلى خلق علاقة نموذجية بين التدريسي والطالب، وكما يُقال إذا أردت أن تنجح في شيء عليك أن تحبّه، وأرى أن من أهم شروط نجاح التدريسي في مهمته ليس السيطرة على المادة العلمية وفهمها فقط، بل لابد أن يرافق ذلك كسب قلوب الطلاب ومحبتهم وثقتهم واحترامهم، وهذا الشرط لا يقل أهمية عن إتقان الكفاءة العلمية.

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
أصبت كبد الحقيقة، استاذنا الغالي. "الكلام الذي يخرج من القلب يدخل الى القلب" شكراً لكم2022-01-09