q
الأفكار الجديدة، التجارب الفذة، الحياة بكل ألوانها، الشخصيات بأنواعها النادرة والمبتذلة، الأحداث بصورها المفجعة المفرحة، الغنية الفقيرة، الطرية الجافة، الحنونة القاسية، كل هذا وسواه رأيتهُ وعايشته في أفكار وصور وأحداث الكتب التي علّمتني كيف أحترم عقلي وذاتي، وكيف عليَّ أن احترم الآخر...

ربط أحد المفكرين الغربيين (هوارد غارنر) مستقبل الإنسانية بالاحترام، جاء ذلك عبر تأكيده لأهمية اعتماد البشرية على العقل المحترِم الذي يساعد الإنسان على احترام الآخر، وأكد رأيهُ هذا في كتابه (خمسة عقول من أجل المستقبل)، وقال ما معناه أن البشرية سوف تجازف بتعريض نفسها للفناء، فيما لو عجزت عن امتلاك هذا النوع من العقول القادرة على نشر الاحترام المتبادَل بين الجميع.

كيف يمكن لنا صناعة العقل المحترِم أو الإنسان الذي يحترم الآخر بطريقة ليست مفتعل أو غير مصطنعة، بمعنى كيف يُظهر إنسان ما احترامه لآخر انطلاقاً من سجيتهِ وطبيعتهِ، وليس إقحاما أو تمثيلا بما يُشبه الخداع، فهناك من يحاول تحسين صورته بطريقة اصطناع الشخصية الجيدة.

لكن هذه العملية مكشوفة، فلا يمكن أن يختفي الإنسان إلى أمد بعيد خلف شخصية مصطنعة، لذلك فإن القدرة على الاحترام تتولد عبر وسائل وسبل عديدة، من بين أهم الوسائل، كما أكد لنا معلّم الدين في الابتدائية (القراءة).

ذات يوم أتذكر هذه الجملة جيدا من معلّم الدين، قال ما مضمونه (عليكم بالقراءة كي تتعلموا احترام الناس وتكسبون احترامهم أيضا)، وهنا لابد أن أقول، ليس هناك لحظة زمنية فارقة قادتني إلى عالم القراءة، وأكاد لا أتذكر متى دخلت إلى عالم الكتب غير المدرسية، لكن جملة المعلّم المذكورة سابقا تركت أثرها في داخلي، وفكرت فيها مليّا بعد أن فهمت ماذا يعني الاحترام.

تعلّمتُ معنى الاحترام من فتاة تجاوزت المراهقة بقليل، كانت هذه الفتاة تخاطبني بكلمة (سيد) قبل أن تنطق اسمي، فتناديني يا (سيد علي)، في وقتها كنتُ ذا جسم ضئيل، وكيان هش، وكان لون بشرتي يطغي عليها السمار، وكان الوضع الاقتصادي لعائلتي مزريا، هذه البنت التي كانت تحب قراءة الكتب، وهي من أقاربي، جعلتني أشعر بكياني وقيمتي الإنسانية حين نادتني يا (سيد).

ومن عجائب المصادفات أنها دلّتني على قراءة رواية للفتيان، كان بطلها متميزا باحترامه الشديد للناس، حتى أولئك الذين يخالفونه الرأي أو الفكر أو سواه، كان يُبدي لهم الاحترام ويتقرّب منهم ويتفهمهم، منذ ذلك الحين الذي اجتمعت فيه نصيحة (معلّم الدين) برواية الفتيان لقريبتي الفتاة القارئة، صرتُ أتدرب على كيفية كسب الاحترام وإبداءَهُ للآخرين.

في بداية الأمر لم أشعر أن القراءة يمكنها أن تعلّمني الاحترام، بل كثيرا ما عانيت من التأقلم معها، فأنا في قمة الحماسة الشبابية، وعندي رغبات متأججة لقتل الوقت مع أقراني من الصبْية الصغار، ولا زلت أتذكر حتى اللحظة كيف كان يمر كثير من الوقت دون طائل، سوى اللهو البريء، لكنه سرق مني ما لا يُعاد مرة أخرى، وأعني به الزمن، صحيح أن مراحل أعمارنا تفرض علينا قوانينها، لكن الوقت الذي أهدرته (شخصيا)، لم يكن صحيحا هدْره.

قريبتي القارئة التي تسبق اسمي بكلمة (سيد)، أعابت عليّ هذا الهدر المخيف للوقت، واستطاعت أن تسحبني من عالم اللهو بالتدريج، وأجبرتني (احتراما لها) أن أحمل الكتاب معي أينما ذهبت، وكانت حين ترى الكتاب بصحبتي تطمئن، لكنني في الحقيقة لم أكن أقرأ كما يجب، بل كنت أمثّل القراءة أو أتظاهر بها.

كنتُ حين أصعد سيارة الأجرة العمومية أجمل معي الكتاب استجابة لنصيحة رجل الدين وقريبتي القارئة، لكنني حين أفتح صفحات الكتاب، فإنني في الحقيقة لا أرى الكلمات المطبوعة في أوراقه، كنتُ أدفن وجهي في الكتاب لكن ذهني وخيالي يسرح في أحداث تحرمني من القراءة تماما، وتتحول الورقة إلى شاشة صغيرة أرى فيها الأحداث التي تُشغل ذهني وخيالي.

مع ذلك كان يراودني شعور بأن الركاب الذين يشتركون معي في ركوب سيارة الأجرة يكنّون الاحترام لي، أما أنا فكنتُ أقنعُ نفسي بأنني نجحت في إيهامهم، وأنا كما يتوهمون إنسانا قارئا مثقفا لا تفارقه الكتب ولا يكفّ عن القراءة، وهكذا بمجرد شعوري باحترام الآخرين لي، أشعر بالزهو وأسعى لاحترام الآخرين في التخاطب والسلوك، لكن مع مرور الشهور والسنوات تحولت حالة القراءة إلى حقيقة وليست تصنّعا أو إيهاماً للآخرين.

ومع مرور الوقت أيضا، وبمواصلة القراءة، بدأت أشعر بأنني إنسان محترَم ليس تخيّلا أو توقّعا، وأنني لابد أن أقابل من يحترمني بما يماثل فعلهُ هذا، فالناس تنظر إلى من يقرأ على أنه مثقف، وانطلاقا من هذه النظرة تحترمه، لكن الأمر الرائع في كل هذا، أنني حين دخلت عالم القراءة بدأتُ ذلك متصنعا، ومحاولا إيهام الناس بأنني مثقف، لكن الأمر لم يبق هكذا طويلا، فقد تحوَّلت القراءة إلى طقس لا يمكن مفارقته، كما أنني بدأت أقطف ثمار القراءة.

الأفكار الجديدة، التجارب الفذة، الحياة بكل ألوانها، الشخصيات بأنواعها النادرة والمبتذلة، الأحداث بصورها المفجعة المفرحة، الغنية الفقيرة، الطرية الجافة، الحنونة القاسية، كل هذا وسواه رأيتهُ وعايشته في أفكار وصور وأحداث الكتب التي علّمتني كيف أحترم عقلي وذاتي، وكيف عليَّ أن احترم الآخر.

فلا سبيل أمامنا سوى صناعة العقل المحترِم، هذا العقل الذي يقطع الطريق أمام الفناء القادم، فيما لو خسرت البشرية فرصة صناعة العقل الذي يشيع ثقافة الاحترام المتبادَل بين الأمم، نعم هنالك أساليب كثيرة لصناعة هذا النوع من العقول، لكن القراءة وامتلاك الثقافة والأفكار المتنوّرة تمتلك السبل الأهم والأقدر على صنع العقل المحترِم، وجعل الاحترام صفة ورابطة بشرية عالمية.

اضف تعليق