q
أما آليات التدمير فهي‮ ‬كثيرة ومتنوعة؛ أبرزها‮: ‬تجفيف منابع الحياة وإفراغها من مؤسساتها الرسمية وكوادرها العلمية والمتخصصة عن طريق القتل أو التهجير القسري،‮ ‬وخلق الفوضى العارمة من خلال الاضطرابات الأمنية والقتل العشوائي‮ ‬والمنظم؛ لإرهاب العراقيين لجعلهم خنوعين وهلوعين وراكعين في‮ ‬حياتهم اليومية.‮..

هذا عنوان كتاب جديد صدر قبل أسابيعَ،‮ ‬لعالم الاجتماع العراقي‮ ‬معن خليل العمر،‮ ‬المعروف بنشاطه البحثي‮ ‬والأكاديمي‮ ‬والمعرفي‮ ‬عربيّاً‮ ‬قبل أن‮ ‬يكون عراقيّاً،‮ ‬لأن الرجل ترك العراق منذ نهاية السبعينات بعد أن كان مدرّساً‮ ‬في‮ ‬قسم الاجتماع في‮ ‬جامعة بغداد‮ ‬يحمل درجة الماجستير من أمريكا،‮ ‬وكان لي‮ ‬الشرف أن أتتلمذ على‮ ‬يديه في‮ ‬مادة‮ "‬المؤسسات الاجتماعية‮" ‬في‮ ‬بداية السبعينات،‮ ‬وكان وجوده في‮ ‬القسم آنذاك‮ ‬يشكل دماً‮ ‬جديداً‮ ‬مع علماء مخضرمين في‮ ‬العمر والعلم،‮ ‬كعلي‮ ‬الوردي‮ ‬وقيس النوري‮ ‬ومتعب مناف السامرائي‮ ‬وعبد الجليل الطاهر ويونس التكريتي‮ ‬وشاكر مصطفى سليم وحاتم الكعبي.

‬وكان‮ ‬يشكل مع زملائه الشباب من التدريسيين الآخرين رافداً‮ ‬جديداً‮ ‬في‮ ‬الرؤية والمنهج،‮ ‬ربما بما‮ ‬يحملونه من أفكار جديدة في‮ ‬المدرسة الأمريكية الجديدة في‮ ‬فترة السبعينات،‮ ‬في‮ ‬نظرياتها الاجتماعية المستحدثة،‮ ‬والصراعات النقدية المحتدمة بين المدارس الفكرية بخصوص مناهجها وأطاريحها الاجتماعية المختلفة‮. ‬

هنا كعادتي‮ ‬في‮ ‬قراءة الكتب المهمة في‮ ‬زاوية‮ (‬شهق الناس‮)‬،‮ ‬أقدم معلومات وأستنبط رؤىً‮ ‬للقارئ للتفكير والتأمل،‮ ‬ومحفزاً‮ ‬لقراءة الكتب المهمة،‮ ‬مثلما فعلت اليوم مع كتابٍ‮ ‬مؤلفُه من الوزن الثقيل،‮ ‬وباحث اجتماعي‮ ‬مرموق له عشرات الكتب،‮ ‬وعمل في‮ ‬أرقي‮ ‬الجامعات،‮ ‬خاصة أن الكتاب‮ ‬يضم معلومات قيمة وخطيرة مدعمة بالأرقام والإحصائيات الاجتماعية،‮ ‬وهي‮ ‬وإن كانت مهمة فإنها قابلة للنقاش والتفسير المضاد‮. ‬

يقدم البروفسور معن خليل العمر في‮ ‬كتابه رؤية اجتماعية تحليلية ونقدية،‮ ‬للظواهر الاجتماعية التي‮ ‬ظهرت بقوة بفعل ممارسات الأنظمة السياسية المختلفة في‮ ‬الحكم،‮ ‬وسياسات القمع والاستبداد والفساد والطائفية،‮ ‬التي‮ ‬طغت على الحياة العراقية،‮ ‬وشكلت للشخصية العراقية إرهاصات اجتماعية ونفسية أثرت على سلوكه ومعتقداته وممارساته،‮ ‬سواء على صعيد القيم والتنشئة أم على صعيد الإحباط من الحياة والمستقبل‮.

‬لذلك استخدم الباحث منهج الوصف والتحليل والنقد في‮ ‬تشريح المجتمع العراقي،‮ ‬بهدف الوصول إلى الحقيقة التي‮ ‬يصعب تحليلها في‮ ‬أجواء القيم المتغيرة،‮ ‬وفوضى الظواهر الاجتماعية الكثيرة والطارئة التي‮ ‬سببتها أفعال السياسة الجاهلة لاقتلاع مؤسسات الوطن،‮ ‬والإصرار على التدمير الممنهج للحياة الاجتماعية،‮ ‬ولِهُويّة العراقي‮ ‬كتاريخ وقيم،‮ ‬وإخماد الطاقة الإيجابية في‮ ‬الشخصية العراقية التي‮ ‬أسست الإرث الكبير لمقومات النهضة،‮ ‬وتحويلها إلى طاقة سلبية للهدم وإشعال الفتن والغيبيات،‮ ‬وغلق منافذ الأمل للمستقبل‮. ‬

في‮ ‬فصوله الخمسة المتنوعة بالموضوعات،‮ ‬وصفحاته التي‮ ‬تعدت الخمسمائة صفحة،‮ ‬يختصر الباحث تراجيديا العراق الحديث اختصاراً‮ ‬دقيقاً،‮ ‬وبالذات المجتمع العراقي‮ ‬بطريقة موضوعية كباحث علمي،‮ ‬فهو لا‮ ‬ينظر للحاضر فقط،‮ ‬وإنما‮ ‬ينظر للماضي‮ ‬أيضاً‮ ‬من ثقب الباب،‮ ‬ويجعل المسببات واحدة في‮ ‬المعنى الاجتماعي،‮ ‬والحلقات مترابطة في‮ ‬فهم حركة المجتمع،‮ ‬لذلك كان حريصاً‮ ‬على تفسير الظواهر قبل وبعد الاحتلال،‮ ‬وهو ما أشار إليه بأن‮ (‬حركة المجتمع العراقي‮ ‬كانت تدور في‮ ‬حلقة مفرغة‮)‬،‮ ‬ولا بد من توثيقها علميا،‮ ‬لأن هذه الأحداث الاجتماعية هي‮ ‬القادرة على توثيق تاريخ الحركة السياسية والاجتماعية في‮ ‬العراق الحديث،‮ ‬بهدف تعرية الواقع المزري،‮ ‬و‮(‬كنس وتنظيف العناصر والفئات المصلحية والهدامة للوطن لتكن هذه الأحداث دروساً‮ ‬بليغة للأجيال العراقية القادمة‮). ‬

ويتساءل الباحث ضمن اهتمامه بموضوع الهوية العراقية‮: ‬أين هي؟ ومن هي؟،‮ ‬ويعتقد أن المحتل والأحزاب الإسلامية هي‮ ‬التي‮ ‬أيقنت أن تدمير العراق لا‮ ‬يتم إلا بتدمير هذه الهوية الوطنية الموحدة؛‮ (‬لأنها تعكس التنوع المشترك والموحد في‮ ‬الشعور الجمعي‮ ‬والفردي،‮ ‬خاصة وأن أصحاب التيار الديني‮ ‬لا‮ ‬يعترفون بالهوية الوطنية،‮ ‬لأنهم‮ ‬يعتبرونها كفرا وإلحادا؛ لأنها تمثل الجغرافيا والتاريخ والثقافة المحلية للمواطن‮)‬،‮ ‬مما تسبب في‮ ‬تقوية الولاء للقبيلة والطائفة والحزب والأسرة على حساب الولاء القوي‮ ‬للوطن،‮ ‬لذلك‮ ‬ينتهي‮ ‬إلى تعميم خطير قابل للنقاش‮ (‬بأن المجتمع العراقي‮ ‬لم‮ ‬يكن وطنيا ولم‮ ‬يكن متحضرا ومتطورا اجتماعيا،‮ ‬بل متزاوجا بين الولاء القبلي‮ ‬التقليدي‮ ‬والطائفي‮ ‬المذهبي‮ ‬والحزبي،‮ ‬بمعنى أنه مازالت مكونات العراق فئوية أحادية التقاليد.

‬وهذا هو التناقض الأكبر بين المجتمع وحكامه،‮ ‬الذي‮ ‬سبب معضلة لعدة قرون‮) ‬نعم هناك خلل أصاب في‮ ‬بنية الوطنية كمعنى وممارسة،‮ ‬لكنها ظلت حاضرة في‮ ‬وجدان العراقي‮ ‬عندما استفــــــاق من‮ ‬غيبوبته الغيبية والطائفية،‮ ‬ووجد نفـسه محاصَراً‮ ‬من قوى الشر والفساد،‮ ‬لينتفض ضد الاحتلال والفاسدين والعملاء،‮ ‬وهذا ما أشار إليه الباحث صراحة‮ (‬في‮ ‬ص50‮) ‬معللاً‮ ‬مقاومة العراقيين للاحتلال،‮ ‬وانتفاضة الشباب للسلطة المارقة العميلة،‮ ‬ويخرج من التناقض عندما‮ ‬يقول لنا بأن‮ (‬القرابين‮) ‬العراقيين‮ ‬غيروا معادلات الوطنية باتجاه صـحيح،‮ ‬لأن العراقي‮ ‬عندما‮ ‬يتوحد ويشعر بالضيم فإنه لا‮ ‬يقبل بالخــــنوع والانعزال والمهانة،‮ ‬بسبب خلفيته التاريخية الحافلة‮ (‬بالحركة والحيوية التواقة نحو التقدم والانفتاح على العالم‮). ‬

يختصر بروفيسور معن العمر مأساة المجتمع العراقي‮ ‬بأنظمة الحكم والأحزاب والحروب وأنواع الحصارات الاقتصادية والسياسية،‮ ‬فهي‮ (‬تفاعل متواشج بين الاغتصاب مع الكارثة والمحنة والفتنة،‮ ‬ليتبلور هذا التفاعل لمصائب متنوعة ومتعدة ببلائها ونوائبها وعللها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية،‮ ‬فأضحى مجتمعا فوضويا‮ ‬غير منسقا،‮ ‬ومفككا بنائيا،‮ ‬وطاردا لا جاذبا مخترقا‮ ‬غير محصناً‮). ‬

ويرجع ذلك لما‮ ‬يسميه بصانعي‮ ‬المرايا المنكوبية،‮ ‬وهم‮ (‬الحمقى الأقوى سلطاناً‮ ‬والأقل عدداً،‮ ‬للأضعف نفوذاً‮ ‬والأكثر عدداً،‮ ‬والأفقر حالاً‮ ‬ومالاً،‮ ‬وهم المجتمع العراقي،‮ ‬هدفهم استلام السلطة ونهب ثروة البلد،‮ ‬وتغليب التنظيم الطائفي‮ ‬الديني‮ ‬على سياسة البلد،‮ ‬مما فقدت الثقة والمصداقية فيما بينهم‮). ‬

أما آليات التدمير فهي‮ ‬كثيرة ومتنوعة؛ أبرزها‮: ‬تجفيف منابع الحياة وإفراغها من مؤسساتها الرسمية وكوادرها العلمية والمتخصصة عن طريق القتل أو التهجير القسري،‮ ‬وخلق الفوضى العارمة من خلال الاضطرابات الأمنية والقتل العشوائي‮ ‬والمنظم؛ لإرهاب العراقيين لجعلهم خنوعين وهلوعين وراكعين في‮ ‬حياتهم اليومية.‮

‬إضافة إلى آلية إحداث تشققات اجتماعية في‮ ‬النسيج الاجتماعي‮ ‬العراقي‮ ‬بهدف خلق تجاويف وانفلاقات في‮ ‬الهرم السكاني،‮ ‬ونشر ثقافة الفساد وتسميم الحياة الوظيفية بهذا الفيــــــروس،‮ ‬وإعادة بناء التعليم بما‮ ‬يتوافق مع منهج عقيدتهم وطائفيتهم،‮ ‬وتعـــــميق مفهوم الغيـــــبيات لقتل العـــــــلم،‮ ‬واجتثاث العلماء والمثقفين وقادة الجيش‮. ‬وباختصار كما‮ ‬يقول المؤلف‮: (‬اقتلاع نظم المجتمع الضابطة وأجهزتها المتخصصة،‮ ‬وإحلال محلها زمر وعصابات سوقية،‮ ‬وأبناء شوارع عابثة لا تعرف الحياة العصرية والعلمية‮).‬

المختصر في‮ ‬التراجيديا العراقية التي‮ ‬قام بتشريحها الباحث بحسه الوطني‮ ‬العميق وبرؤيته العلمية المحايدة،‮ ‬هو وجود ثالوث مدمر‮ ‬يفتك بالمجتمع العراقي،‮ ‬وهو ثالوث مبني‮ ‬على العصـــــبية الطائفية والعنف الدموي‮ ‬والفســــاد بكل أنواعه،‮ ‬إذ عندما‮ ‬يتمدد التعصب الطائفي‮ ‬يزدهر الفساد الذي‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى إنعاش العنف،‮ ‬وعندما‮ ‬ينتعش العنف‮ ‬يتكثف تمدد التعصب الطائفي،‮ ‬وهذا بدوره‮ ‬يـــــؤدي‮ ‬إلى انتـــــعاش وازدهار الفساد ليصل إلى تغول طغيان العنف،‮ ‬وهـــــــكذا أدى هذا الثالوث المترابط الأركان إلى نكبة المجتمع العراقي،‮ ‬وإلى هـــــذه التراجيديا التي‮ ‬تفسر من قبل علم الاجتماع بأنـــــها مأساة واقعية ناتجة عن ظروف تسلطية ودموية قامعة صادرة من قبل سلطة عليا أو دولة عظمى تسبب محناً‮ ‬وصفها الباحث بالبلية،‮ ‬وهي‮ ‬حقّاً‮ ‬بليّةٌ‮ ‬أكبر من المأساة‮! ‬

والمجتمع العراقي‮ ‬اليوم فيه من البلايا والمآسي‮ ‬ما‮ ‬يعصف بالوجدان،‮ ‬ويدمع العين،‮ ‬ويفطر القلب‮!‬

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق